- الدكتور عبد الحفيظ نيار
رأينا في الجزء الأول من هذه المداخلة أن الكانوني رحمه أولى عنايته بالمآثر العمرانية الصوفية، لكونها ترمز للمكون الثقافي السائد في منطقة أسفي وما إليه، كما رأينا أن كثيرا من هذه المآثر ارتبطت الإشارة إليها بالأعلام الذين كانت لهم إسهامات وأدوار متعددة في المجتمع استحقوا معها هذه المكانة الرفيعة، وسنحاول في السطور الآتية أن نقف على الكيفية التي تناول بها الفقيه الكانوني مسألة التوثيق لرجال التصوف بالمنطقة، ونتعرف من خلال ذلك على بعض الأدوار والوظائف التي قدمها هؤلاء الأعلام للمنطقة على أن نتابع ذلك في جزء آخر بإذن الله.
2/ التراجم والأعلام الصوفية بأسفي:
سبقت الإشارة إلى أن الفقيه الكانوني رحمه الله ألّف حول سيرة (الشيخ أبي محمد صالح) كتابا تناول فيه الحديث عن شيوخه وتلامذته وأبنائه، أما باقي أعلام المنطقة فبالإضافة إلى ما أورده من تراجم لهم في كتبه التاريخية، فقد أفرد لهم كتابه المسمى (جواهر الكمال في تراجم الرجال) والذي ضمّنه حوالي 421 ترجمة، قال عنه الدكتور محمد بن شريفة : “ولهذا الكتاب قيمة كبيرة من حيث اشتماله على جمهرة من أعلام هذه الجهة أو الذين مروا بها، وقد كادت تضيع ولا يُعرف أصحابها لولا المرحوم الكانوني”[1].
وبما أن الفقيه كان صاحب رسالة وهدف إصلاحي، فقد جعل من ترجمته لهذه الشخصيات والتعريف بها وبسيرتها وسيلة لتحقيق هذه الغاية، وقد حاول جعل هذا الكتاب مرجعا لمن أراد الوقوف على جهود أبناء هذه المنطقة في الرقي بها وخدمة أهلها كل في مجاله، حيث بذل جهدا مضنيا في التنقيب عن هؤلاء الأعلام وبعث حياتهم إلى الوجود خاصة تلك التي مضى زمنها واستحقت الوقوف عندها مليا باعتبارها تصلح للإقتداء الأخلاقي، هذا الأخير الذي يراه الكانوني وغيره مدخلا ضروريا لأي إصلاح منشود، ولاشك أن الذين أغنوا هذه الصورة وأعطوا فيها المثال المرغوب هم المتصوفة حيث أفنوا أعمارهم في سبيل التربية الأخلاقية باعتبارها قاعدة الدين وغايته، ولكونها الباعث والمحرك نحو البذل والتضحية من أجل الحفاظ على الأمة ورقيها، ولعل هذا ما حاول المحققون الإشارة إليه في مقدمة الكتاب بقولهم : ” قد تكون هذه الشخصيات أو التراجم استرعت انتباه المؤلف ورأى من الضروري الوقوف عندها، علما أن المنطقة ككل اختلطت فيها الصوفية الرجراجية بالصوفية الدغوغية والأمغارية والصنهاجية، وفيها دفن العديد من هؤلاء الرجال والنساء و بها كانت مدافن الأولياء والصالحين وعلى رأسهم القطب الشهير سيدي أبي محمد صالح، واقتناعا منه بضرورة تقريب التاريخ من التصوف حاول أن يمزج في مؤلفه هذا بين الأحداث العامة والترجمة الخاصة مقحما ضمنها طبيعة الثقافة التي كانت سائدة قبل وخلال الفترة التي عاشها “[2].
فمن خلال هذا القول يتوضح أن النسبة الغالبة في تراجم الكتاب المشار إليه تتعلق برجالات التصوف سواء من الأولياء العارفين أو الصلحاء المتنسكين أو المريدين المنتسبين أو المحبين المقتدين كما وأن للمرأة المتصوفة حضور بارز فيه.
ولن نذهب بعيدا في البحث عن الأمثلة لما سبق الحديث عنه، فهو واضح من أول ترجمة في الكتاب والتي جاء فيها : ” أبو العباس أحمد بن أبي صالح : حاله، هو الشيخ العارف الكبير القدوة الإمام الشهير ذو الفضائل المشهورة، والأحوال السنية…. جال في بلاد المغرب ومدنه وقراه وبث النصائح والإرشادات الدينية في قبائل البربر بجبل الأطلس وتافيلالت وسوس وغير ذلك حتى ترك تلاميذ وأتباعا استناروا بمنار هديه”[3].
وتنبغي الإشارة إلى أن الرجل في تراجمه عفيف القلم، يتورع عن ذكر النقائص التي لا يسلم غالبا منها إنسان، إلا إذا أصبحت خلقا ملازما لصاحبه ولا يتحرج من إظهاره، فيضطر آنذاك إلى إيراده في ترجمة صاحبه تنبيها ونصحا لغيره خاصة إذا كان شاهدا عليها، قال في إحدى التراجم : ” ولولا شغفه بالرياسة وقبض الرشوة شغفا خارجا عن الحد لكان مثال النبوغ والذكاء، ولكنه تكدرت حالته بسوء السيرة، ومجاهرته بقبض الرشوة من الخصوم، بحيث كان يصرح بذلك قائلا إنه اشترى هذا المنصب بكذا وكذا، فهاتوا دراهمكم حتى اشتهر ذلك من حاله بين الخاص والعام”[4].
في ختام هذه النقطة لابد من القول أن الفقيه الكانوني قد استفاد أيما استفادة من تكوينه في مجال علوم الحديث وكذا مهنة العدالة التي قام بمزاولتها، حيث نجده يكتب سيرة هؤلاء الأعلام بصيغ متعددة تفيد كيفية تلقيه لهذه التراجم سواء سماعا فاشيا أو ممن يثق في علمه، كما يشير إلى ما وقف عليه مقيدا أو مخطوطا إلى غير ذلك من الصيغ، فلم يكن همه الجمع والإستقصاء بل أضاف إلى ذلك التحقيق والتمحيص وهو ما أعطى لتآليفه قيمة تاريخية وعلمية كبيرة فرحمه الله تعالى وجزاه خير الجزاء.
3/ الوظائف والأدوار للزوايا بأسفي.
يرى الدكتور محمد بن شريفة [5]أن مجموعة من كتب الفقيه الكانوني رحمه الله بها العديد من الفوائد التي يمكن أن يستفيد منها الباحثون والمهتمون، وبخاصة تلك المنتمية إلى المجال التاريخي وذلك لتضمنها الكثير من المعلومات القيمة والنظرات النقدية حول بعض الظواهر والقضايا الاجتماعية وغيرها، كما أن المسلك الغالب الذي نهجه في مؤلفاته حول الأعلام وذلك بالجمع ما بين الترجمة وبعض الأحداث العامة أو الخاصة، أو بإبراز ما كان للشخصيات المعرف بها من تأثير وحضور في محيطها، ليقدم معلومات هامة حول الأدوار والوظائف التي لعبها التصوف في مجال أسفي وما إليه بالرغم من كونها جاءت موزعة على مجموعة من مؤلفاته، لكن يمكن من خلالها رسم صورة واضحة عن هذه الوظائف والأدوار التي قام بها الصوفية وزواياهم في المنطقة، والتي يمكن الوقوف على أهمها لأن المجال لا يسمح باستقصائها جميعا.
أولا: الدور الديني.
تباينت الآراء حول مؤسسة الزاوية وتشعبت البحوث حول تحديد مفهوم يمكن الاتفاق عليه لتعريفها أو تاريخ محدد لنشأتها، إلا أن هذا الاختلاف يتلاشى في مسألة الوظائف التي مارستها ولا تزال تمارسها، فلا خلاف في أن الزواية أولا مؤسسة دينية تمارس فيها العبادات من صلاة وتلاوة للقرآن والأذكار ومن اعتكاف ومدارسة للعلوم، فهنالك تلازم عميق وترابط وثيق بين الزاوية ووظيفتها الدينية والعلمية، إذ تنطلق من تربية روحية ومعرفية في آن واحد وتستهدف في المريد أن يقوي إيمانه بالله تعالى ويتعلم شرع الله، فالزاوية لم تفصل بين رسالتها الدينية ومهمتها العلمية، بل جعلت من المهمتين معا صورة واحدة للإسلام الصحيح الذي لا يقبل التجزيء او الفصل بين الإيمان والعلم والعمل[6].
وبهذا الخصوص فمن المؤكد أن أبرز مثال سيقفز إلى أذهاننا هو ما قامت به الزواية الماجرية بأسفي من دور خطير في الدفاع عن الركن الإسلامي الخامس، ” وتنظيم رحلة الحج ” التي مهد سبيلها الشيخ أبو محمد صالح بعد دعوى سقوطه عن المغاربة، والذي جعل الأنظار تتجه نحو أسفي والقلوب تهفو لأشهر رباط بها، وبهذا الصدد يرى الكانوني أنه :” يجب على كل مؤمن شكر هذه الهمة القعساء والشيمة العالية التي خلدت هذه المفخرة العظيمة وشيدت هذه المأثرة الفخيمة التي هي الوسيلة الوحيدة لربط علائق أهل الإسلام وجمع أوصالهم بعدما أخنى عليهم الدهر بكلكله ورام من لم يغص في فلسفة التشريع الإسلامي نقضها وإسقاطها، فلله در هذا الشيخ من طبيب ماهر حيث لم يقصر ذلك على الدعاء باللسان حتى أخرج ذلك لحيز العمل فكانت تلك الحسنة العظيمة من نصابه”[7].
فيظهر من هذا المثال الناصع وغيره أن الزوايا بأسفي يعود لها الفضل الكبير في تثبيت أركان الإسلام والمحافظة عليها من كل تحريف قد يشوبها بالإبتداع فيها بالزيادة أو النقص، وذلك بتعليم الناس أمور دينهم وتيسير السبل العملية الكفيلة بمساعدتهم على أداء واجباته دون مشقة ولا حرج، وإذا كان المثال الذي بين أيدينا تناقلته المرويات والمؤلفات لشهرته المستفيضة حتى قد يظن البعض أنه لا حاجة لإعادة الكتابة عنه، لكن الكانوني رحمة الله عليه يرى في الحدث درسا يجب أن يستفاد منه وأن الشيخ “أبا محمد صالح” أستاذ ينبغي الإقتداء به وأن للشيوخ والزوايا أدوار من أخطرها التمثل العملي لأخلاق الإسلام وسلوكياته وبتعبيره في وصف صنيع شيخ الزاوية الماجرية “حيث لم يقصر ذلك على الدعاء باللسان حتى أخرج ذلك لحيز العمل[8]“، وهكذا برهنت الزوايا في المنطقة عن دورها الريادي في المجال الديني حيث جمعت بين التوعية والتعليم والحفاظ على الممارسات الدينية بشكل صحيح وعملي.
[1] ينظر: جواهر الكمال في تراجم الرجال، ج2 ص17 منشورات جمعية البحث والتوثيق والنشر ط2001
[3] نفسه ج1 ص7ـ8.
[4] نفسه ص67.
[5] ينظر مقدمة جواهر الكمال.
[6] ينظر مؤسسة الزوايا بالمغرب بين الأصالة والمعاصرة د جمال القادري بوتشيش بتصرف ج1 ص 260 أطروحة دكتوراه نوقشت بدار الحديث الحسنية بالرباط سنة 2001.
[7] الجواهر الصفية ص 31.
[8] نفسه.
للاطلاع على الجزء الأول من المقال