الفقيه الكانوني وقضايا التصوف(1)

2,539
  • الدكتور عبد الحفيظ نيار

بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بداية أعتقد أن مؤلفات الفقيه الكانوني رحمه الله وكتاباته أغنت عن التعريف به، كما أن ما قدمه من الأيادي البيضاء والأفضال على مدينة أسفي وأبنائها ما لا يستطيع مجازاته عنها إلا الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فمن الواجب علينا أن نسهم  ولو بقدر بسيط في التعبير عن هذا الجميل الذي أسداه الكانوني للبحث العلمي بهذه المدينة، وأظن أنه قد حان الوقت للإستفادة من هذه الذخائر المعرفية التي تركها الفقيه ووضعها على طاولة المدارسة تحليلا ومناقشة، وهي مناسبة أيضا نتقدم فيها بالتقدير والإمتنان لكل من حاول جاهدا من أساتذة وباحثين إخراج تراث هذا الرجل العظيم للوجود[1].

وسأحاول في هذه المداخلة تحت عنوان ” الفقيه الكانوني وقضايا التصوف” أن أثير بعض النقاط في هذا الموضوع، لعلها تحظى بمزيد من البحث والإهتمام نظرا لما يكتسيه موضوع “التصوف” من أهمية في وقتنا الراهن، حيث أن المقاربة المتميزة في المدرسة الصوفية لمجال الأخلاق والقيم الإنسانية جعلت منها مرجعا لا محيد عنه في النقاشات والندوات التي تعقد بهذا الخصوص على المستوى العالمي. هذا فضلا عن كون التصوف أغنى التراث الإسلامي بمدرسة متفردة ذات منهج تربوي له امتدادات في تشكيل هوية المجتمعات الإسلامية إلى اليوم، مع ما يثيره ذلك من تساؤلات عن جدوى المنهج التربوي الصوفي في واقعنا المعاصر، وذلك بعدما خرجت المدرسة الصوفية من محنة اتهامها في ما آلت إليه أوضاع الأمة الإسلامية من تقهقر وتسلط للأعداء عليها، وأنها من أكبر الأسباب في ابتعاد الأمة عن إسلام السلف، هذه الفترة الزمنية العصيبة هي التي عاش جزءا منها فقيهنا الكانوني رحمة الله عليه، فكان من اللازم عليه وهو يخوض تجربة الكتابة في مواضيع تهم قضايا عصره وخاصة تلك المتعلقة بتاريخ مدينته أسفي المغربية، من أن يتعرض لهذا الموضوع الشائك والحساس، خاصة وهو الفقيه المتنور الذي عرف عنه دفاعه المستميث عن قضايا أمته بنفس إصلاحي، واعتماده في ذلك على الكتابة واعتبارها من الوسائل الرئيسية في استنهاض همم أبناء أمته. ومن خلال الورقات الآتية سنقف على كيفية معالجة الفقيه الكانوني لهذا الموضوع الشائك والمعقد في ظرف زمني لايقل عنه تعقيدا.

المقدمة : 

يشكل التصوف في المغرب وحركيته جزءا لا يتجزأ من تاريخ المملكة، بل هو مكون أساسي وجوهري من مكونات هوية الشخصية المغربية عبر مسارها التاريخي كما أوضح ذلك الدرس التاريخي والفكري والحضاري في المغرب.[2]حيث لعبت الزوايا الصوفية دورا مهما في بناء الدولة، وأضحت ساحة للتوعية والتربية الدينية حتى صار المغرب يعرف إلى اليوم ” ببلد الأولياء والصالحين”، ولهذا فإن أية دراسة للمغرب وتاريخه ستكون قاصرة وغير مستوعبة عند إغفالها لدور التصوف والزوايا في حركيته. فالحديث إذن عن تاريخ آسفي الإسلامي مرتبط بالعنصر الصوفي ارتباطا عضويا ووجوديا، حيث كان للرباطين الشهيرين “رباط شاكر[3] ورباط أبي محمد صالح[4]” أدوارا تاريخية هامة سواء في نشر وتثبيت الإسلام بالإقليم وخارجه، أوفي مقاومة البارغواطيين وتعزيز التيار الصوفي الإسلامي.

 من خلال هذه المنطلقات فإن المهتم بتاريخ المنطقة لا بد وأن يستحضر البعد الصوفي في كتابته، وهو ما سنحاول استجلائه عند الفقيه الكانوني مؤرخ “آسفي وما إليه” من خلال مؤلفاته في هذا المجال، وقبل الخوض في كيفية تناول الفقيه لموضوع ” التصوف ” ينبغي الإشارة إلى أن النفس الفقهي حاضر بوضوح في الكتابات التاريخية لتلك الفترة، لكون جل المغاربة من المهتمين بالتاريخ كانوا فقهاء أو ممن كانت الدراسات الشرعية أساس تكوينهم العلمي، وبما أن الفقيه الكانوني لم يفرد لموضوع التصوف تأليفا خاصا ــ على حد علمي ــ بل اكتفى بالإشارة إلى مجموعة من قضاياه هنا وهناك، على الرغم من تناوله لجزء من سيرة الشيخ أبي محمد صالح بالكتابة [5] والتي خصها لترجمة الشيخ والتعريف بذريته وبعض من تلامذته، فإننا أمام هذا الوضع ولمحاولة الكشف عن طبيعة تناوله لموضوع          ” التصوف” يلزمنا أن نتتبع الإشارات الدالة على الموضوع والتي يمكن أن ترد في ثنايا مؤلفاته خاص تلك التي همت تاريخ مدينة آسفي.

وسنشرع بإذن الله في مقاربة الموضوع بداية من خلال التعرف على المقصود بالزاوية في الاصطلاح الصوفي باعتبارها فضاء للممارسة الصوفية:” فالزاوية والرباط هما مركزان خاصان بهؤلاء السادة الصوفية للاستعداد للجهاد ومحاربة الكفار وأعداء الإسلام والمذاكرة في أصول الطريق والسنة النبوية الشريفة”[6].

فيظهر من خلال هذا التعريف إذن أن ” الزاويا هي معالم وفضاءات عمرانية يجتمع فيها مجموعة من الأفراد للتربية وفق أصول وقواعد محددة يطلق على الملتزمين بها صوفية، وذلك بغية القيام بأدوار ووظائف في المجتمع”. فمن خلال هذا التعريف التقريبي سنحاول معالجة موضوع قضايا التصوف في كتابات الفقيه الكانوني من خلال المحاور الآتية:

1/ العمران والمآثر الصوفية بأسفـــــــــــي.

2/ التراجم والأعلام الصوفية بأسفي.

3/ الوظائف والأدوار للزوايا بأسفــي.

4/ المباحث والموضوعات الصوفيـــــــة.

5 / الرؤية الإصلاحية للتصـــــــــــــــــوف.

ساهمت الزوايا والأضرحة بالإضافة إلى المساجد في تشكيل العمارة المغربية وتميزها، فبالإضافة إلى ما تحتويه من فنون معمارية تشهد لعبقرية الصانع المغربي وتفرده في مجاله، فقد غدت رمزا ثقافيا يعكس التوجهات العقدية والفكرية السائدة في المجتمع، فهذه الفضاءات ظلت مفتوحة أمام الجميع كما أن ممارسة أنشطتها وطقوسها ليست حكرا على فئة من المجتمع دون أخرى، فعلى الرغم من انتساب الزاوية لطريقة ما فقد ظلت علاقتها مع محيطها تتميز بالتواصل الدائم ومبنية على النفع للمجتمع وهو ما سنلاحظه من خلال الأدوار والوظائف التي لعبتها الزوايا في المجتمع المغربي والتي سنقف على بعضها في حينه، وهكذا فإن تأسيس الزوايا والعناية بها كفضاء عمراني نابع من كونها أصبحت مراكزا حيوية أقر المجتمع المغربي بأدوارها الريادية والتي أكسبت المغرب إشعاعا في مجالات شتى المعرفية منها والسياسية.

ونظرا لهذه القيمة الكبيرة التي أضحت للزوايا والأضرحة داخل المجتمع المغربي، فالعناية بتأسيسها والإهتمام بها مع تنوع مشارب واتجاهات أصحابها التربوية داخل فضاء جغرافي معين كمدينة أسفي مثلا، ليدل دلالة واضحة على الهوية التربوية والثقافية للمدينة، ومدى تشبع أهلها بالقيم الصوفية، وقناعتهم الراسخة بالأدوار التي قام بها التصوف في المدينة ومحيطها، فبواسطته أصبحت ذات صيت وإشعاع كبيرين ومقصد طلاب المعرفة الروحية وغيرها.

وقد خصص الفقيه الكانوني للزوايا وتأسيسها مبحثا في كتابيه “آسفي وما إليه” و”الجواهر الصفية” تناول فيه بإجمال التعريف بالمتواجد منها داخل مدينة آسفي وتاريخ تأسيسها ووضعيتها العمرانية،  فقال عن الزاوية الناصرية:” زاوية الشيخ أبي عبد الله محمد بن ناصر الدرعي المتوفى سنة1082ه رضي الله عنه.أسست هذه الزاوية بداخل المدينة على مقربة من المسجد الكبير قبل سنة 1142ه والقديم منها هو الصنف الموالي للمحراب والباقي محدث في عصرنا”[7].

أما عن الزوايا المؤسسة خارج المدينة فغالبا ما يشير إليها عند ترجمته لأحد الأعلام المنتسبين إليها     ــ نسبا أو تربية ــ كقوله عن الولي الصالح “سيدي علي بن عبد العزيز المنور بن رحو” كان جوادا وأحد أفراد الزاوية المباركة- يقصد الزاوية الغنيمية-“[8] وأيضا كقوله عن الفقيه السيد “أحمد بن الرحالية العلوي الغنيمي” “وكان فقيها فاضلا جوادا، كان مستوطنا آسفي ونقيب الزاوية الغنيمية”[9].

وفي نفس السياق العمراني لم يغفل الكانوني الحديث عن القباب والأضرحة والتي ترمز في الثقافة المغربية للصلاح والولاية كما ترمز للتقدير والعرفان الذي يشمل الصوفية وغيرهم من العلماء وأهل الفضل، حيث أفرد الكانوني لهؤلاء مبحثا من كتابه ” الجواهر”  تحت عنوان “فيمن أقبر برباط آسفي من العلماء والصالحين”. لكن الملاحظ من خلال التراجم أن أغلب القباب والأضرحة مؤسسة على قبور أهل الصلاح والولاية الصوفية، في حين أن قبور أغلب الأعلام من العلماء والأعيان بأسفي توجد بداخل هذه القباب وأضرحة الصوفية وزواياهم.كما في حديثه عن ضريح الشيخ ” أبي محمد صالح ” حيث قال : ” وأما القبة الموجودة الآن فهي من تأسيس القائد الأشهر أبي زيد عبد الرحمان بن ناصر العبدي الجرموني … وفي مؤخر سنة 1282 جدد القائد محمد بن عمر العبدي الثمري أعلى القبة من داخل فقط وحشر لها الصناع كالحاج محمد سطاعش والحاج علال المستاري وغيرهم فأودعوها ما شاءوا من أنواع النقش والتخريم والتزويق فجاءت على مثال بديع فائق ومنظر بهيج رائق يدل على ما للعروبة من التفوق والتفنن في هذه الصناعة ” ثم قال عن القبور المتواجدة بالقبة: ” فإن قبر الشيخ الآن في قبلة القبة عن يمين الوالج ” إلى أن قال :” وفي وسط القبة ضريح الفقيه العلامة الصالح أبي زيد السيد عبد الرحمان المطاعي رحم الله الجميع “[10].

أما خارج أسوار أسفي فقد تحدث الفقيه الكانوني عن هذه المآثر العمرانية  من قباب وأضرحة في الفصل السابع من كتابه” الجواهر الصفية” بعنوان ” في صلحاء أحواز آسفي” حيث ترجم فيه لحوالي مائة شخصية من الصلحاء والصوفية.

وهكذا يتبين أن المآثر العمرانية الصوفية وتواريخ تأسيسها والأحداث المرتبطة بها بالإضافة إلى الأدوار التي قامت بها داخل مدينة أسفي، شكلت عند الفقيه الكانوني مدخلا هاما لمعرفة تاريخ المدينة ومقوما أساسيا من مقوماتها الثقافية وطابعا لهويتها الإسلامية الصوفية، والتي حاول المستعمر في عصر فقيهنا العبث بها والإجتهاد في طمسها والتنقيص من قيمتها، بربط هذه المعالم بالخرافة والجهل والتخلف، في حين أنها منارات تحيل إلى التاريخ الحضاري والعلمي والجهادي للأمة المغربية، وقد استغل المستعمر بدهاء ما آلت إليه أوضاع الزوايا في جميع المناحي فنجح إلى حد كبير في إبعادها عن المجتمع بل واستطاع ربطها بخدمته بعد ما كانت رمزا لمقاومته، فأصبحت محل نقمة وفي موضع التهمة والشك في انتمائها للإسلام، فعمل بذلك على طمس تاريخ مجيد للأمة المغربية، وإشاعة الفرقة والفوضى بين أبناءها بعدما كانت موحدة حول ثوابتها الدينية والتي من بينها التصوف.

أمام هذا المخطط الإستعماري تظهر لنا أهمية الجهود التي بذلها الفقيه الكانوني رحمة الله عليه في التوثيق لهذه المآثر العمرانية الصوفية بأسفي حماية لها من كل ما من شأنه أن يمس هويتها أو يتلاعب بتاريخها الناصع وبدور رجالاتها في حماية مقومات الأمة والدود عن دينها الإسلامي، فهو بهذا الصنيع العبقري وجهده الفردي فوت على أعداء الوطن فرصة العبث بتاريخه والتفريق بين ماضيه وحاضره لتضييع هوية أبناءه وجعلهم لعبة في يد التيارات والأهواء شرقية كانت أو غربية فجزاه الله عنا خير الجزاء.

[1] سبق للدكتور عبد الرحيم العطاوي عند تقديمه لكتاب الأستاذ محمد السعيدي ” الفقيه محمد بن أحمد العبدي الكانوني حياته وفكره ومؤلفاته” أن تحدث عن الخطوة التي يجب أن تلي مرحلة طبع ماهو مخطوط من مؤلفات الكانوني بقوله : (كما أن المؤلف فتح باب هذه الدراسات على مصراعيه أمام الباحثين في شتى العلوم والفنون) ص 14منشورات جمعية آسفي للبحث والتوثيق ط1 سنة 2000.

[2] ينظر: تاريخ التصوف بالمغرب، محمد السادس للعلماء الأفارقةhttps://www.fm6oa.org

[3] شاكر من أتباع عقبة بن نافع تركه بالمنطقة ليعلم الناس أمور الدين الإسلامي وقد أكد مجموعة من البحاثة أنه تابعي وأصله من رجراجة ينظر بهذا الخصوص كتاب: رباط شاكر للأستاذ محمد السعيدي الركراكي مطبعة وليلي مراكش الطبعة الأولى سنة 2010.

[4] أبو محمّد صالح بن ينصارن الدكالي الماݣري (548- 631هـ/ 1153 -1234م) يقول الكانوني: للشيخ أبي محمد صالح رضي الله عنه زوايا ورباطات بالمشرق والمغرب وهذا الرباط بآسفي هو مركزه الوحيد طار له الصيت في الافاق، وقد ظلت هذه الزاوية بآسفي شاغلة فراغا كبيرا طيلة النصف من القرن السادس وكامل السابع والثامن والتاسع على رغم التقهقر الذي كان يسري اليها ضرورة سريانه في جسم الامة الاسلامية عموما وفي الأمة الآسفية خصوصا حتى فاتح القرن العاشر الهجري كان سقوطها الاخير بانصباب “البرتغال” على هذا البلاد فانطمست تعاليمها.(آسفي وما إليه قديما وحديثا ص98.)

[5] البدر اللائح والمتجر الرابح في مآثر آل .أبي محمد صالح. تأليف : محمد بن أحمد الكانوني العبدي. الناشر : جمعية البحث و التوثيق و النشر. الطبعة الأولى2011

[6]  الزاوية القادرية عبر التاريخ والعصور ص19 ط1 سنة 1986م مطابع الشويخ تطوان.

[7] ينظر: آسفي وما إليه، للفقيه محمد الكانوني ص101. د ت ط. والجواهر الصفية في تاريخ الديار الآسفية تأليف : محمد بن أحمد الكانوني العبدي. الناشر : جمعية البحث و التوثيق و النشر. الطبعة الأولى2015 ص32.

[8] الجواهر الصفية ص237.

[9]  نفسه ص 238.

[10]  البدر اللائح ص 28ـ 29ـ 30.

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في دين وثراث
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

تكريم فعاليات ثقافية بأسفي في اليوم العالمي للرجل