أهمية إحياء ثقافة الأوقاف في التصدي للأزمات

3,204

بقلم ادريس حسحاس

 (باحث اقتصادي بسلك الدكتوراه بجامعة الحسن الثاني عين الشق الدار البيضاء)

يسعى المغرب في الآونة الأخيرة، بتوجيهات سامية من أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، لوضع نموذج تنموي جديد يجسد بالملموس تطلعات المغرب نحو إقلاع حقيقي يرتكز بالأساس على تثمين الرأسمال غير المادي.  توجه يحمل في طياته إقرار ضمنيا بقصور النموذج السابق  الذيأصبح متجاوزا، رغم تحقيقه مجموعة من المنجزات، إلا أنه لم يستطع الإجابة على جملة من الإكراهات والمعوقات التي لم تسمح بتحقيق الإقلاع المنشود والمتوقع.

ولعل الأزمة الصحية الأخيرة التي يشهدها العالم بشكل عام والمغرب بشكل خاص، والتي تعدت المجال الصحي لتشمل المجالين الاقتصادي والاجتماعي، قد أماطت اللثام عن مجموعة من الإشكاليات التي لم تستطع السياسات العمومية السابقة الإجابة عنها في حينها، لتتراكم وتتناسل وتصبح عائقا كبيرا نحو تجاوز الأزمات الحالية وتشكل سدا منيعا أمام تحقيق النماء والازدهار.

مداخلتنا هاته لا تهدف لإبراز وتعداد مكامن الخلل في النظام الاقتصادي المغربي، فهي ليست ذات بعد اقتصادي، ولا حتى ذات بعد شرعي يهدف للتعريف بالوقف وأركانه، لكنها بالأساس ذات بعد ثقافي توعوي، نسعى من خلالها لإحياء ثقافة غائبة أو مغيبة بفعل التطور المادي للحياة المعاصرة أضحت معها ثقافة التكافل والتآزر ثانوية وتقتصر فقط على مبادرات شخصية، محمودة بكل تأكيد، لكنها لا تحقق المبدأ الأساس من التكافل الاجتماعي وهو تقليص التفاوت الطبقي والحد من الفقر والهشاشة التي أصبحت ميزة سلبية تطغى عل النظام الاجتماعي المغربي.

فبالفعل، تعد الثقافة من أهم المعايير لقياس مدى تحضر الشعوب وتطورهم بعيدا عن المعايير المادية الاقتصادية التي تعتمد على تغليب الكم على الكيف،  وتغيب  البعد الاجتماعي والإنساني في قياس تقدم وازدهار الأمم. ولعل ثقافة الوقف التي جاء بها الإسلام شكلت، عبر أزمنة مضت، مرتكزا أساسيا لتحقيق التكافل والتضامن الاجتماعي ومكنت من تحقيق التماسك والتآلف بين طبقات المجتمع.

وبالرجوع إلى تعريف الوقف (أو التحبيس) فهو كل مال حُبس أصله بصفة مؤبدة أو مؤقتة، وخصصت منفعته لفائدة جهة بروإحسان عامة أو خاصة. وبمعناه المبسط، التخلي عن ممتلك خاص لفائدة الله المالك الأوحد، ليصرف ريعه لصالح الفقراء والمعوزين ولسد حاجيات فئة معينة يرجى بها الثواب المستدام حتى بعد الممات. فهو بذلك تقرب إلى الله تعالى وتجسيد فعلي لمفهوم الصدقة الجارية التي يحض عليها الإسلام.

ومنه يمكننا تصور الدور الكبير الذي قد يضطلع به الوقف لدعم جل مجالات الحياة من اقتصادية واجتماعية وثقافية، وهذا ما دأب عليه المسلمون منذ عصور مضت؛ فقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم أمواله في سبيل الله، وكذلك فعل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والتابعون وتابعو التابعين،وسار المسلمون على هذا النهج إلى زمننا المعاصر بحيث أصبح الوقف سنة وتعبدا يرجى به وجه الله تعالى ومرضاته.

وقد نهج المغاربة نهج أسلافهم في دعم الأمة ومساندة الدولة في سد حاجيات مواطنيها في عدة مجالات، وخاصة المجالات التي كانت تعرف قصورا كالصحة والتعليم، فعمل المغاربة على مؤازرة القطاع العام بالإنفاق من أموالهم الخاصة لدعم مجالات اجتماعية، في صورة تجسد معنى المواطنة الكاملة في إطار المسؤولية التامة من منظور الواجبات والحقوق للفرد تـجاه الجماعة كما حث عليها الدين الإسلامي الحنيف. كما أسهم المغاربة، عبر مؤسسة الوقف، في لعب دور هام في التصدي للأزمات التي يعرفها المغرب، فسارعوا بتوقيف ممتلكاتهم على مجموعة من القطاعات الاجتماعية وخاصة الصحية من أجل التكفل بالمرضى وإطعام المساكين وإعانة المحتاجين من تطبيب وتعليم.

وكذلك عرف المغاربة بإسهامهم الكبير في إشعاع ثقافة الوقف، فإلى جانب التحبيسات لفائدة المساجد والكتاتيب والجامعات والخزانات العلمية، عرف المغاربة بالوقف على الرعاية الصحية، وذلك من خلال الوقف على الحمامات والسقايات لتحقيق النظافة وضمان الماء، وقاية من الأمراض وتحقيقا لهدف السلامة الصحية للوقاية من الأمراض والأوبئة من جهة، وكذا الوقف على المستشفيات والملاجئ ودور المسنين لرعاية المعوزين والتكفل بهم من جهة ثانية. وقد كان الوقف الصحي موردا ينفق منه على كل المجالات المتعلقة بالصحة والتطبيب والتعليم.

إلا أن فترة الحماية التي شهدها المغرب أدت إلى اندثار هذا النوع من التحبيسات بفعل التغييرات التي عمدت إليها سلطات الحماية الفرنسية للنظام الوقفي بالمغرب. فتم بذلك حرمان فئة عريضة من المجتمع، خاصة الفقراء والمساكين، من التكفل والرعاية الصحية،  فئة ما زالت تعاني الى يومنا هذا، ما يستوجب القيام بنهضة فكرية تعيد للوقف مكانته البارزة في المجتمع.

وفي المقابل، شهد التشريع الوقفيبعد فترة الحماية تطورا ملحوظا، حيث ثم إصدار مجموعة من القرارات بهدف حماية الوقف وتحديد شروط استغلاله واستثماره،وتوجت هذه القرارات بصدور مدونة للأوقاف عملت على تغطية الفراغ التشريعي والتنظيمي في مجال الوقف. ولعل التعديل الأخير التي عرفته هذه المدونة يؤكد بالملموس حرص أمير المؤمنين الناظر الأعلى للأوقاف على الحفاظ على هذا الكنز الثمين وتثمينه واستثماره بشكل يساهم في التنمية المستدامة  للبلاد. فالنظام الوقفي الحالي بالمغرب يسمح باللجوء لآليات حديثة للاستثمار وفق ما يتطلبه التطور الاقتصادي والاجتماعي المعاصر، وذلك باعتماد صيغ متطورة، كالأسهم والصناديق الوقفية، للقيام بمشاريع تنموية في مجالات مختلفة تماشيا مع شروط الواقفين وتلبية لتطلعاتهم.

ومنه نخلص إلى أن الأرضية جد خصبة لإعادة إحياء شريعة الوقف بالمغرب حتى يعود لأداء أدواره السابقة، وذلك بانخراط جميع فئات المجتمع، كل حسب موقعه وقدرته، في تحقيق التكافل الاجتماعي والإسهام بشكل فعال إلى جانب القطاع العام ومؤسسات الدولة في تنمية القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم والتشغيل. وتجدر الإشارة إلى أن ثقافة الوقف تبقى أعم وأدوم من ثقافة الهبات والعطايا، لكونها تضمن الاستدامة والتأبيد، وتعتبر أنجعَ الحلول لكثير من الإشكالات المرتبطة بالنظام الاجتماعي والاقتصادي.

وختاما، إن المحافظة على الوقف، هذا الموروث الثقافي الروحي الهام، تستلزم أن تتجند كل فئات المجتمع، وكلّ حسب مقدرته، من أجل إحياء ثقافة الوقف بهدف تخفيف العبء والإنفاق على ميزانية الدولة من جهة، وللتصدي لمختلف الأزمات التي قد تعترض مسار تقدم البلاد وصحة العباد من جهة ثانية. فبإحياء الوقف من جديد، سنسْهم بكل تأكيد في رسم معالم مغرب جديد، مبني على ركيزة التضامن والتكافل، تلك الركيزة التي تعتبر حجر الزاوية في بناء مجتمع إنساني سليم يشكل أرضية متماسكة لإنجاح أي نموذج تنموي جديد.

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في دين وثراث
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

تكريم فعاليات ثقافية بأسفي في اليوم العالمي للرجل