المصطفى العياطي
أستاذ وباحث في التاريخ.
مقدمة:
يزخر المجال الترابي الممتد ما بين نهر أم الربيع شمالا الى نهر تانسيفت جنوبا وحتى قبيلتي الرحامنة والشاوية من ناحية الشرق والشمال الشرقي، بالعديد من أسماء الاماكن التي لا تمت الى لغة العرب ولا إلى اللغات الاوروبية بصلة. إلا أنه بفضل إعمال المقاربة الطوبونيمية التي تختص بتشفير أسماء الاعلام الجغرافية والبشرية، استطاع الباحثون المحدثون التوصل الى نتائج مقنعة في فهم معنى تلك الاسماء، وإثبات أنها بقايا تسميات أمازيغية ، تنحدر بالضبط من زمن مصامدة السهول الذين كانوا يسكنون ” ما دون جبال الاطلس إلى المحيط حيث آسفي على شاطئه وسط قبائل دكالة”).1)
ومن جملة تلك الاسماء الامازيغية التي لاتزال متداولة بمنطقتنا عبدة ، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: آسفي، تيحونا ،إتركين، تكابروت، تكشارت ، تمغوارت ، ويرس، امرامر، أيير،إيبودا ،فرطميس ، صيدوك، تهرموشت ، سرنو وغيرها كثير….
سنحاول في هذا المقال أن نسلط الضوء ونزيل اللبس الذي اعترى واحدة من تلك التسميات، التي ما تزال مستعملة على أوسع نطاق بمنطقتنا عبدة، ويتعلق الامر بلفظة “التوفري”. فما معنى لفظة “توفري”؟ وماهي الوظيفة الأولى لمنشأة “التوفري”؟ وما هي وظائفه المستحدثة عبر الزمن التاريخي المحلي؟
أولا: قراءة في طوبونيم “توفري”:
يتعلق الامر بكلمة أمازيغية صرفه، يتركب رسمها من لفظتين وهما: “توف”، وتعني أفضل أو أحسن. و “إ يفري” وتعني الغار(2). فيكون بذلك معنى “توفري”: أحسن غار أو” أفضل من الغار”. وعليه فإننا نعتقد بأن ما تسوقه بعض الأقلام على المواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، على أن أصل كلمة “توفري” هو العبارة الفرنسية Tout frais(3) لا أساس له من الصحة.
ثانيا: الوظيفة الأصلية لمنشأة “التوفري“:
أسعفتنا المقاربة الطوبونيمية وكذا القرائن الميدانية الى جانب الروايات الشفوية، في رسم خط زمني لوسائل السكن، كظاهرة اجتماعية متجددة بالمنطقة. ذلك أن الامازيغ (المصامدة الاوائل) الذين استوطنوا المجال، كانوا قد استخدموا –في البداية -الاغوار والجحور التي كانوا ينقرونها بالجبال (4) وعلى طول الحافات القارية المطلة على البحر المحيط، كوسيلة للسكنى وكذا لممارسة مختلف الطقوس التعبدية، حيث ماتزال سواحل عبدة تحتوي على مغارات وكهوف قديمة،عدت من المواقع السكنية الاولى، التي استوطنها الانسان البدائي خلال عصور ما قبل وما قبيل التاريخ حسب اعتقادنا. وتدلنا على ذلك تلك الحفريات واللقى الاثرية المستكشفة بكل من مغارتي المشة والكرعاني بجماعة البذوزة شمال آسفي، مع العلم أن هناك مغارات أخرى نذكر منها على سبيل المثال: مغارتي سيدي عبد السلام البغلي الموجودة بساحل منتجع قصبة الوليدية، وسيدي عبد العزيز المنور ببلاد دكالة، ناهيك عن وجود مغارات أخرى مختلفة الأحجام لا تحمل اسماء محددة، والتي يظهر أن جلها مغارات طبيعية لم يحفرها الانسان، كونها تتميز بتجويفاتها الطبيعية وبأشكالها غير المنتظمة.Reguliéres
بعيدا عن الساحل وفي اتجاه الداخل من بلاد الترس، ظهرت في عصر لاحق-يصعب تحديده- منشأة جديدة وهي “التوفري” ، التي عدت آنذاك أفضل من المغارة، مشكلة بذلك قفزة نوعية على مستوى السكنى في إطار التحولات الاجتماعية والذهنية والثقافية التي عرفها انسان ما قبيل التاريخ. ف “التوفري” عبارة عن خندق مستطيل الشكل في بداية ولوجه، مزود بدرج يفضي إلى باطن الارض وفق أحجام متفاوتة، ويتوفر على بنيقات جانبية منتظمة الشكل استعملت لخزن الاغراض أو لتربية الدواجن. و يتألف “التوفري” في داخله من غرف مختلفة المساحات، ويكون في أغلب الحالات مدعما بركيزة أو عدة ركائز، يزداد عددها تبعا لحجم “التوفري” واستعمالاته، وقد حرص الانسان الاول على نقشها أتناء الحفر لتلعب دور السارية التي تحمل عبء السطح وتحفظه من الانهيار. ويكون “التوفري” مزودا بكوة كبيرة ما يزال العبديون يطلقون عليها الى الآن تسمية ” الزنورة” تقوم بأدوار مختلفة كالتهوية وإفراخ الحطب والتبن (الحطب المدروس) و”القشبيلة” (اعواد الذرة) الى باطن “التوفري”. لقد عدت منشأة “التوفري” -إذن-في ذهنية الانسان البدائي -الذي استوطن المجال لأول مرة-أحسن من الغار بالنظر الى الامتيازات المشار إليها، فدرج على تسميتها كذلك من منطلق فكري فطري.
ومع توالي توافد العرب الهلاليين الى المناطق السهلية المغربية ،في شكل هجرات منذ فترة الحكم الموحدي حتى أواسط العهد المريني ،كما تخبرنا المصادر التاريخية العربية بذلك ، ونظرا لكون هؤلاء العرب كانوا معتادين على الترحال والتنقل وراء قطعان أغنامهم ومواشيهم أثناء رحلة البحث عن المراعي ومصادر المياه بالمجالات الصحراوية والسهلية ، فقد كانوا يعتمدون في استقرارهم المؤقت على الخيام المصنوعة من الصوف ووبر الماعز، ولذلك عدت الخيمة الوسيلة السكنية الثانية التي ستقحم بالمجال العبدي، والتي ستستمر في الوجود حتى مرحلة الحماية الفرنسية من القرن الماضي ،وقد اخبرنا “أرمان أنطونا ” بذلك ،بقوله : ” ذلك أن الاجيال الحديثة لا يتذكرون أنهم شاهدوا الخيام إلا في الربيعة، تلك القبيلة المعمورة التي تتألف في غالبيتها من عناصر عربية الأصل”(5).
خلال فترة الحكم السعدي -حيث اتسع مجال نفوذ الدولة المغربية ليشمل بلدانا أفريقية جنوب الصحراء-سيستمر وجود “التوافرية” والخيام معا، لكن سيتعزز المشهد السكني بقبيلة عبدة بنوع آخر من السكنى المقتبس من بلاد السودان ومالي وغيرهما، ويتعلق الامر بالنوالة، التي كان يتم إنشاؤها وفق أحجام وأشكال مختلفة، منها ما هو مستطيل ومنها ما هو أسطواني، حيث وقف المستكشف “ادمون دوتي” على ذلك التنوع بمنطقة الرحامنة، ووصفه في كتابه “مراكش” بمناسبة رحلته سنة1901 م (6). بينما في منطقتنا عبدة نجد أن “أرمان أنطونا” الحاكم المدني لآسفي وعبدة خلال فترة الحماية، قد ” أحصى منها أكثر من 000 24 في سنة 1926م”(7) مضيفا بأن “هذا النمط السكني قديم جدا وقد ذكره سالوستSalluste”(الاغريقي)(8)، وهو ذات الطرح الذي أيده عبد اللطيف البرينسي أستاذ التاريخ القديم بكلية الآداب والعلوم الانسانية بمراكش.
لن يتوقف التطور الذي عرفته أنماط السكن بمنطقة عبدة، والمجالات المجاورة لها والمشابهة لها على المستويين الاثنولوجي والاثنوجرافي عند هذا الحد، ذلك أنه بالنظر الى بروز ظاهرة الاستقرار بالمجالات المذكورة، بجوار الحقول الزراعية ومصادر المياه، بدأت منشأة “البيت ” في النشوء. فظهرت تلك البناية في البداية، مسقوفة بالقصب والخشب والقش، مبنية بحيطان بالبناء المدكوك (التابية) ،قبل ان يستقر بناؤها باستخدام الحجر المتماسك بواسطة البغلي، لتبدأ بعد ذلك “الدار” البلدية في الظهور ،المشتملة على مرافق مختلفة الوظائف كالقبة والدويرية والزريبة والكمي (بالكاف المعقوفة) والكوري وغير ذلك…
ثالثا: وظائف “التوفري ” بين الأمس واليوم:
بالرغم من وجود فراغات وثائقية يستحيل معها ضبط وتعقب المظاهر التفصيلية لسيرورة المشهد السكني بمنطقة عبدة وبالمجالات السهلية المماثلة لها، فقد حاولنا بما تيسر لنا من قرائن ميدانية ووثائقية أن نستجلي تاريخ السكن بتلك المجالات وفق تسلسل زمني مسترسل ومركز. إلا أنه ينبغي إثارة انتباه القارئ الكريم الى نقطة في غاية الأهمية، ستشكل لنا نقطة ارتكاز في سياق الحديث عن الوظائف المستحدثة التي آلت اليها منشأة “التوفري” عبر الزمن الحديث والمعاصر. ذلك أنه لم توجد قطائع (فوارق) زمنية محددة على مستوى سيرورة انتقال الانسان العبدي من حقبة المغارة الى حقبة “التوفري” أومن حقبة استخدام هذا الاخير الى حقبة الخيمة ثم حقبة النوالة فحقبة البيت ثم الدار، بمعنى أنه لم تحدث القطيعة الحاسمة الفاصلة بين الانماط السكنية القديمة والانماط الجديدة ،التي كانت تظهر كنتيجة لحتمية التطور الانساني بالمجال، وإنما كان هناك استمرا ر لوجود القديم الذي كان يختفي بشكل تدريجي ليحل محله الجديد بنفس الوتيرة تقريبا.
من هذا المنطلق فقد استمر الانسان العبدي كغيره من سكان المجالات السهلية المجاورة في حفر “التوافرية” بأحجام وطاقات استيعابية مختلفة حسب ما تمليه الحاجة، وهي لم تعد تنجز لأجل السكن، اللهم في بعض الحالات الاضطرارية كالحر الشديد أو تعرض الابنية السكنية للانهيار جراء الامطار الغزيرة. وبما أن البادية المغربية عموما والعبدية على وجه الخصوص قد عرفت تحولات اجتماعية وديمغرافية لافتة منذ أواخر القرن السادس عشر، الذي يؤرخ -حسب عدد من المراجع التاريخية-لرجوع واعادة توطين القبائل العربية عقب جلاء المحتل البرتغالي سنة 1541م ، الذي عرف بممارساته الشنيعة من ترويع واغتصاب في حق سكان القبائل العربية . فقد تعرضت مؤسسة العائلة الفلاحية الاقطاعية الكبيرة للتفكك الى أسر نووية صغيرة محدودة الافراد والامكانات، إثر غزو ما عرف آنذاك بثقافة “العزيل” التي أتت على آخر مظاهر التلاحم العائلي(9). وكنتيجة لذلك التحول الاجتماعي فقد بات ضروريا أن تمتلك كل أسرة على سكن خاص وكانون خاص وحظيرة خاصة وبيدر خاص و “توفري” خاص وذلك هو بيت القصيد. حيث أصبحت منشأة “التوفري” صغيرة الحجم، تحفر بفضاءات مهملة وبعيدة، أو خلف البيوت أو بالبساتين وأحيانا بالأراضي الموات أوالمشاعة ملكيتها بين جماعة الناس. عندئذ اصبح لهذه المنشأة أدوار ووظائف أخرى، تجسدت في خزن الحطب والتبن والاخشاب و”الوكيد”(10)(الكاف معقوفة) والأدوات الفلاحية (11)، بالإضافة الى المحاصيل الزراعية بعد وضعيها في الاكياس، وفي هذه الحالة بات من الضروري تزويد “التوفري” بأبواب محكمة الإقفال مخافة تعرضها للنهب والسلب.
وجدير بالذكر أن “التوفري” شكل مخبأ جيدا لرجال المقاومة من الوطنيين المغاربة خلال فترة الحماية الفرنسية، سواء لعقد الاجتماعات أو لتنسيق العمليات خلسة عن عيون الاستعمار ومخبريه، أو لخزن الذخيرة ومختلف أنواع الأسلحة.
كما لاتفوتنا الإشارة إلى أنه بالرغم من استفحال ظاهرة الاستغناء كليا عن خدمات “التوفري” خلال الماضي القريب، إلا أنه ظل ملاذا مفضلا للنوم فترة الظهيرة (القيلولة) خلال فترات الحر الشديد، وأن بعض “التوافرية” المنعزلة والقصية عن التجمعات السكنية ماتزال تشكل ملاذا مفضلا لتنظيم الحفلات الخاصة جدا(القصاير)، او لإخفاء المسروقات والممنوعات كالقنب الهندي(الكيف) واعداد أيضا.
خاتمة:
قطعت منشأة “التوفري” مراحل زمنية طويلة ببادية قبيلة عبدة، ولذلك يحق لنا أن نعتبرها ثراتا إنسانيا محليا، شأنه شأن باقي المؤسسات الاجتماعية من صنفها ك “الأكادير” بمناطقنا الجبلية و “تازوطا” بالجارة التاريخية دكالة، وكلها منشآت تستحق التثمين ورد الاعتبار.
الهوامش:
1-المراكشي، عبد الواحد، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، الدار البيضاء، ص،482.
2-نفس الامر ينطبق على كلمة “إيمينيفري” الموقع الموجود بنواحي دمنات. فهذه الكلمة مركبة من ثلاث مكونات: “إيمي” وتعني فم و “نْ” وتعني باللغة الدارجة “ديال” و”ايفري” وتعني الغار. فتكون الكلمة تعني “فم الغار.
3-دليلهم هو أن “التوفري” كان يستخدم في الماضي لخزن وحفظ الخضر واللحوم والمواد الغذائية، فيحتفظ لها بطراوتها(fraiches).
4-نذكر على سبيل المثال جبل إيغود القريب، الذي ارتبط بذكره اكتشاف جماجم أقدم انسان على وجه البسيطة الى حد الآن.
5-أنطونا، أرمان، جهة عبدة، ترجمة المرحومين علال ركوك/محمد بن الشيخ، مراجعة أحمد بن جلون، تقديم امحمد زاكور، الطبعة الاولى 2003، ص، 80.
6- دوتي، ادمون، مراكش، ترجمة: عبد الرحيم حزل، منشورات مرسم، مطبعة ابي رقراق 2011،صص،303-308.
7- أنطونا، أرمان، مرجع سابق،ص،80.
8-نفسه،الصفحةنفسها.
9-العطري، عبد الرحيم، تحولات المغرب القروي، أسئلة التنمية المؤجلة، تقديم الدكتور مصطفى محسن، الطبعة الثانية الرباط 2012م،ص،94.
10-بقايا وروث الحيوانات المجففة والتي تدعى أيضا “الفغيوس” أو “أركي”.
11- نذكر من ذلك: المحراث الخشبي ولوازمه: ك عمود ربطون أو أبطون والكفيات(الكاف معقوفة)، و الأرسان والحبال والأخراج (الشوارية) والادوات الفلاحية مثل الفؤوس والرفوش والمعاول والمقابض والمهاريس وغير ذلك..