العَبْدِيــــــــــون

5,872

  المصطفى العياطي
أستاذ وباحث في التاريخ.

عبدة! آسفي! قليل جدا من المسافرين والمستوطنين الأوروبيين بالمغرب من زاروا هذه المنطقة الرائعة وهذه المدينة الساحرة. فعبدة لا توجد على محور الطرق الرئيسية التي تستعملها قواتنا في إطار اختراقاتها العسكرية، وإنما تشترك في نفس المصير مع المعمورة، واحدة من أجمل غابات الفلين الأخضر في العالم وأكبرها. فهي محاطة بواسطة طريقين تربطان مدينتي الرباط ومكناس ولا يعبرها السياح إلا نادرا ،على الرغم من المسالك الجميلة التي تخترقها.

إن المستوطن الأوروبي المنشغل، المضغوط بعامل الوقت، عادة ما يمر مسرعا أثناء الانتقال من نقطة إلى أخرى، باحثا عن الممرات الصحيحة، وهو معمي بفكرة ضرورة الوصول إلى الهدف المطلوب. أما سائق السيارة فرغبته في الفوز بعشرة دقائق تُحَوِّله إلى عبد للوسيلة التي يقودها، إنه يفقد وهو في خضم انفعاله مناسبة فريدة لأجل التملي والاستمتاع بهذا الموقع الجميل، والتعرف على غنى وثراء هذه الأرض المباركة. إنه يضحي بالاحتفاظ بذكرى رائعة طيلة حياته، كي يصل الى فندق متوسط الحال على الساعة الثانية عشرة وخمسة عشر دقيقة بدل من الثانية عشرة وثلاثين دقيقة. أيضا سائقو السيارات فهم كذلك لا يعرفون لا آسفي ولا عبدة ولا حتى المعمورة.

    إن السير على الطرقات التي تسلكها قواتنا لأجل الدفاع، أو سد الثغرات على جبهات القتال وتعزيزها، أو لدفع جبهة البرابرة كانت عنصرا من أجل جلب الخير والنفع العميم للبلدان التي وهبت لنا طرقها ومسالكها بسبب الحرب وضراوتها. ولذلك ينبغي إعطاء الأولوية للجندي وذلك بتوفير الراحة له، وتمكينه من سرعة التنقل على حساب كل الامتيازات. وعلى المناطق التي لا تمتد على طول الطرقات والمسالك العسكرية والتي تقدم لنا خدمات قوية، أن تنتظر الاستفادة من التنمية بشكل كامل، عقب توطيد دعائم الامن والسلام.

     والحالة هذه، فعبدة لا تقع على الطريق في جبهة المواجهة مع برابرة الجنوب، ولا على الطريق الشمالية أو على تلك التي في جبهة برابرة الشرق، ولذلك فمن أجل الذهاب الى العاصمتين، ليس من الضروري المرور من آسفي. لكن سكان آسفي وعبدة دائما أعينهم ترنو نحو الجنوب الغربي الذي منه يجلبون السلع ويلتقطونها كما يلتقط المغناطيس غبار الحديد. إن آسفي وعبدة بإمكانهما الوصول إلى حياة الرغد والاستقلالية والثقة بالنفس. فالواجهة الخلفية لآسفي بالرغم من صعوبات البحر وحالة الحرب فهي تصدر وتستورد مختلف البضائع إلا أنها تبقى محدودة بسبب عدة حقائق اقتصادية في غاية الأهمية.

فمنذ أن بسطت فرنسا منافع حمايتها بالمغرب، لم تطلقولو عيارا ناريا واحدا بالمجال العبدي. ومنذ ماي 1912 م تقريبا، لم يكن للعبديين تاريخ، فهم كونوا قبيلتهم السعيدة، ومع ذلك قبل ثماني أو تسع سنوات، حولتهم ثروتهم الى ضحايا لبعض القياد الجشعين، الذين- اثنان أو ثلاثة منهم- منحوا لأنفسهم حق ممارسة كل ألوان البطش بشكل دموي ومدمر. ويعتبر السي عيسى بن عمر العبدي واحدا من أولئك وأشهرهم، وهو الذي اكتشف مساره من خلال دعمه لصديقنا السلطان مولاي عبد العزيز ضد أخيه مولاي عبد الحفيظ المؤيد لألمانيا. ولذلك عملنا على مكافئته بشكل جميل من خلال وضع كل قبيلة عبدة تحت تصرفه. لكن السي عيسى بن عمر الذي استوعب قوتنا بشكل جيد، لم يكن واثقا من إرادتنا وعزمنا على تطبيق عمليتنا الحمائية لما فيه الخير والتطور الاقتصادي للبلاد، ولذلك استمر في التهام قبيلته بنهم كبير، الامر الذي دفعنا بقوة الى الانفصال عنه. لقد قمنا بذلك بلباقة آخذين بعين الاعتبار كل الخدمات السياسية التي كان يرغب في تقديمها لنا.

إن العبديين اليوم يشعرون بامتنان صادق لحكومة فرنسا وللجنرال الليوطي، كونهم سمح لهم بتطوير وتنمية ثرواتهم والتمتع بها. لقدد قلنا للعبديين:” أحرثوا كل أراضيكم الصالحة للزراعة، ونحن سوف نشتري المحاصيل منكم “. لقد انطلقوا بكل ثقة، فشملت عمليات الحرث حتى مساحات الحروشة الصخرية- وهي نادرة عندهم- بحيث أنهم كانوا قبل عامين من المستحيل عليهم الزيادة في المساحات المزروعة.   إنهم أصبحوا بدافع الحب والحماس يحرثون أراضيهم المكونة من تربة الترس وتربة الحمري، وحتى الحروشة التي كانوا يبيعونها بينهم بكل حسرة بثمن يقدر بخمسة فرنكات للهكتار الواحد في غالب الأحيان، كونهم يعرفون قيمتها ويعرفون بالضبط ما الذي يمكن أن تقدمه لهم من محاصيل.

أما المستوطن الأوروبي بعبدة، والذي لم يكن مالكا للأرض، فنجده يطبق بكل تلقائية وعن طيب خاطر الصيغة الاقتصادية للحماية التي تتأسس في جوهرها على نظام العمل التعاوني. فهو يقرض الأهلي ]ابن البلد [لمدة سنتين أو ثلاثة أو أربعة أو خمس سنوات محاريثه العصرية، وكل الأدوات المتقدمة ، يلهمه ، يعلمه كل الأساليب ويحصد معه ويقتني منه المحاصيل من الحبوب، التي يقوم بمعالجتها وتحويلها الى بضائع ثم يبيعها ، ويجري ذلك ضمن دورة تنظيمية يحصل الجميع  فيها على مستحقاته، بما في ذلك الحرفيون والصناع التقليديون بمدينة آسفي.

إن الثروة التي عملنا على تأمينهاللعبديين، قد جلبت لقبيلتهم ولادة جديدة لعدد من الفنون والحرف الاهلية، كالمهن المرتبطة بنسج الزرابي، بالرغم من ارتفاع أسعار الصوف بالمويسات وبالدواوير العربية بكل من البحاترة والربيعة وحتى بمدينة آسفي نفسها. ذلك أن الزرابي العبدية تمتاز بكونها إما حاملة لترات من أصول بربرية أو أنها زرابي من النوع الشرقي برسوم مستوردة، دخلت المنطقة عبر الغزو العربي، وتتم صناعتها إما بداخل المنازل الصغيرة للفلاحين أو بأنامل فتيات القائد المعطي بن إبراهيم. فالقائد سيدي محمد بن العربي مثلا، أخد عهدا على عاتقه بأن يتخذ خلال كل فصل شتاء “امْعَلْمَة” من قبيلته، بداخل منزله لأجل تعليم عائلته فن تجميع الألوان، ونحناليوم ننافس مثل تلك العجائز الساحرات، اللاتي يعرفن ويتقنن الأصباغالدقيقة.

إن الجميع يرغبون في تزيين منازلهم، فالصاغة لديهم أشغال مطلوبة ومؤداة بشكل مسبق منذ عدة شهور، والنقاشون يعانون من عدم توفر النحاس، والنجارون وصناع الأثاث والخزافون يرغبون في تزويد زبائنهم من الأوروبيين بأشياء من صنعهم، قصد تعويضها بتلك التي لن تصدرها بلادنا أو لاتزال تجد صعوبات في ارسالها الى المغرب بأثمان مرتفعة.

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في ثقافة وفن
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

بودكاست أسفي اليوم | الخطاط عبد الحكيم بورضى والحديث عن تطور الخط العربي في عصر التكنولوجيا