بقلم الكبير الدادسي
من سخرية القدر أن يصادف التئام أطر تربوية لمناقشة ظاهرة العنف في الوسط التعليمي التعلمي، تسريب فيديو يعنف فيه تلميذ أستاذه لاقى رواجا إعلاميا واسعا، وكأن ذلك ردا واضحا على عدم جدوى هكذا لقاءات. وأن المربيين والتربويين يسبحون في مياه غير التي يستحم فيها التلاميذ والمتعلمين ، لكن ذلك لم ولن يمنعنا من أن ندلي بدلونا في هذه المياه العكرة عسى نستكشف بعض ما يعكرها…
في البداية لا بد من الإشارة إلى أننا أمام ظاهرة بنيوية تتداخل فيها أطراف كثيرة ومتعددة ، وأن أية مقاربة أحادية الرؤية لن تساهم إلا في تكريس الظاهرة، كما أن الثقافة المنبرية القائمة على الوعظ والإرشاد ولجلوس على كرسي وثير في مكتب مكيف واقتراح حلول للظواهر الاجتماعية لن يزيد تلك الظواهر إلى استفحالا، بل قد نكتشف في الأخير أن ما تم اقتراحه من حلول، قد يكون سببا مباشرا في تنامي الظاهرة، ذلك الظواهر الاجتماعية تتطلب دراسات ميدانية ولقاءات مباشرة مع المعنيين بالأمر لأن كل فرد يكاد يشكل حالة اجتماعية خاصة تحتاج حلا خاصا بها، فالمشاكل الاجتماعية كالفقر والانفصال بين الأبوين…لا تنتج دائما سلوكات عنيفة، بل قد نجد داخل مؤسسات تعليمية تلاميذ ينحدرون من وسط اجتماعي “راقي” حاجاتهم موفورة، غرائزهم مشبعة، طلباتهم منفذة … يشكلون مصدر إزعاج للإدارة، للأساتذة ولزملائهم….
من خلال معاينة عدد من الدراسات والأبحاث التي كتب حول الموضوع يلاحَظ أنها لا تكاد تخرج عن أربعة محاور ، تعريف ظاهرة العنف المدرسي ، أنواع وتجليات العنف المدرسي ، أسباب الظاهرة، واقتراح حلول لتلطيف الظاهرة وتقليص حجمها. ونحن في هذه المحاولة سننطلق من العنف لنتساءل عما هو مدرسي فيه، ولماذا يوصف هذا النوع من العنف بالمدرسي وهل في هذه الصفة أي تمييز إيجابي لهذا الصنف من العنف…
أمام كثرة وتعدد تعاريف العنف يمكن استخلاص التعريف التالي (“العنف سلوك عدواني يرجح أن يترتب عليه، أذى مادي أو معنوى في علاقة يستقوي فيها طرف على آخر
ومن تم فهو سلوك غير مدني فيه تعطيل للعقل، قتل للحوار ووأد للتفاهم بجعل القوة والعنف وسيلة لحل مشاكل كان بالإمكان حلها بالحوار ) وهو تعريف عام يجعل العنف أنواع كثيرة تتدرج خطورتها من العنف “البسيط” الممثل في كلمة،لمحة أو إشارة إلى القتل والإبادة الجماعية،
وتلك الأصناف تحيل على أن العنف قديم في التاريخ وانه لعب أدوارا حاسمة، على مستوى تنظيم العلاقات الاجتماعية وتوزيع الخبرات وتحديد الأدوار على الرغم آثاره السالبة على الفئات المعنَفة فردا كانت أو جماعة ، كما يجعل من العنف بنية ظاهرة حياتية لا يمكن لأي فرد أن يعيش حياته دون أن يكون في لحظات كثيرة معنِفا أو معنَفا ، وظاهرة مركبة كل يساهم فيها من جانبه بنصيب ولو بالصمت… ولعل ذلك ما يوسع الخلاف بين المدارس التي سعت إلى تفسير العنف: فإذا كان علم النفس يعتبر العنف خاصية إنسانية وجزءا من طبيعة الذات الإنسانية المجبولة على العنف لإشباع غرائزها وتحقيق حاجياته فإن المدارس الاجتماعية والماركسية منها على الخصوص ترى العنف حاجة اجتماعية، ومظهرا من مظاهر الصراع الذي لا يمكن تصور سيرورة تاريخيه دونه، فليس التاريخ سوى صراع بين من يملك ومن لا يملك ، فيما رأى آخرون كماكس فيبر وتروتسكي أن النظام العام للحياة مبني على العنف وأنه حيثما هناك دولة هناك عنف، فلا يمكن لأقلية أن تحكم أكثرية وتسهر على تدبير شؤونها دون عنف، بل إن كل القوانين تبيح للدولة حق ممارسة العنف، ويذهب علم النفس الحديث إلى اعتبار العنف مجرد تجل خارجي لما تعانيه الذات من صراعات داخلية ( حرمان، كبت، ضغط، رغبة ..) تنعكس في حركات وسلوكات عنيفة. لكل ذلك وغيره كان طبيعيا ان يذهب هوبر إلى اعتبار العنف هو الأصل وأن ما نعيشه من لحظات سلم وهدوء ما هي إلا استعداد لمرحلة عنف وصراع قادم…
هكذا وأمام تعدد مداخل دراسة العنف، وتنوع مقارباته يتضح أن العنف يمكن أن يقارب مقاربة دياكرونية حسب التطور في الزمن ، حسب العدد (عنف فردي / جماعي) ، حسب الحنس(التحرش، الاغتصاب..) حسب النوع (مادي / رمزي) اقتصادي ، اجتماعي ، نفسي …. كما يمكن مقاربته حسب المكان ( العنف في الشارع العام/ العنف في الإدارة/ العنف في وسائل النقل/ العنف الأسري في البيت ، العنف في الوسط التعليمي ….
وال
عنف في الوسط التعليمي ، أو العنف المدرسي هو عنف لا يختلف في شيئ عن غيره من الأنواع الأخرى سوى وقوعه في وسط معين، يفترض فيه أن يعلم كيفية تجنب العنف، بتكريس قيم الحوار والتواصل الإيجابي، لكن ما غدا يشهده العالم من تطور جعل العنف المدرسي يتجاوز كل الحدود والأعراف التقليدية مما أضحى يحتم مراجعة وسم هذا العنف بصفة (المدرسي ) لأن ما غدت تعرفه مدارسنا لا يمت للمدرسية بأية صلة ما دمنا أصبحنا نشاهد و نسمع عن الاختطاف القتل، الاغتصاب الجماعي، تشويه أوجه التلميذات، المخدرات بكل ألوانها… بشكل لا يختلف عما هو متداول في عالم المافيا والجريمة العابرة للقارات، بل أمسى العنف المدرسي أشكالا متعددة يمكن أن نميز فيهابين :
- العنف المدرسي الداخلي
- الذي تكون كل أطرافه أفرادا في المؤسسة التعليمية وهو الأخر ألوان كثيرة؛ قد يكون عنفا أفقيا بين طرفين متشابهين تلميذ/ تلميذ. أستاذ/ أستاذ . إداري / إداري. ذكر/ ذكر. أنثى/أنثى… أو عنفا عموديا بين معنِّف ومعنَف مختلفين يستقوي فيه أحد على آخر في الاتجاهين، ويندرج ضمن هذين الصنفين عشرات الأنواع من العنف الذي تدور رحاه داخل الوسط التعليمي التعلمي، كل نوع يستحق دراسة خاصة نكتفي باختزال أهم تلك الأنواع في هذه الترسيمة:
ويلاحظ أمام هذا التنوع أنه بالإضافة إلى الأشكال التقليدية المتوارثة للعنف في الوسط التعليمي فقد أضافت العصرنة والتطور أشكالا لم يكن للوسط التعليمي علاقة بها ، منها العنف التواصلي عبر الوسائط التكنولوجية الحديثة، وشبكات التواصل الاجتماعي … فكثيرة هي ألوان التهديد والتحرش التي يتلقاها التلاميذ عبر تلك الوسائط من زملائهم أو من غرباء وللمتتبع أن يتصور مقدار العنف الذي يمارس على تلميذ قضى سنوات ينـمّــِي رصيدا في حساب افتراضي أو يحصد ألقابا ونقطا في مسابقة افتراضية .. تم اختراق حسابه وتجريده من رأسماله الافتراضي في لمح البصر، مع ما يمكن أن يرافق هذا الصنف من عنف جراء سرقة أو اختطاف هاتف محمول أو حاسوب شخصي، تصوير تلميذ (ة) والتشهير به… وغيرها من أشكال العنف التي تتوصل الإدارات بشكاوي كثيرة بشأنها… ينضاف إلى ذلك عنف رياضي غدا يتنامى بعد ضعف دور المؤسسات التقليدية في احتواء التلاميذ الذين وجدوا في الأندية الرياضية حضنا يجمعهم ويتعصبون إليه ، فتراهم بعد كل داربي ، كلاسيكو، أو أية مباراة يتبادلون عبارات التهكم والسخرية وقد يتطور الأمر إلى عنف صريح أو انتقام من بعضهم البعض أو من الممتلكات العامة أو الخاصة…….
2 – العنف
المدرسي الخارجي وهو عنف يقع داخل أسوار المؤسسة التعليمية أو بمحيطها ويكون أحد أطرافه خارجا عن المؤسسة التربوية سواء كان مؤسسة أو فردا: فقد تتعرض المؤسسة بكاملها لعنف خارجي من مؤسسة تابعة للقطاع في شكل تهميش ونقص في التجهيزات والموارد البشرية، كما قد تتعرض لعنف من مؤسسة خارج القطاع فتخصص السلطات المحلية أو الهيئآت المنتخبة مطرحا للنفيات، أو سوقا عشوائيا قرب مؤسسة تربوية مما يجعلها تعاني عنفا يوميا جراء غياب الأمن، انقطاع الطرق، صعوبة المسالك، الروائح الكريهة أصوات الباعة الذين يستعملون مكبرات الصوت وكل ما يشوش على السير العادي للعملية التعليمية التعلمية وما قد يتناسل عن ذلك من مظاهر عنف يومية تمارس في حق المؤسسة التعليمية والمشتغلين بها.. وقد يكون العنف الخارجي من شخص غريب أو له علاقة بأحد المفاعلين في المؤسسة التربوية ويصعب الحديث على كل نوع وتأثيره السلبي على المتعلمين لذلك نكتفي بالإشارة إلى بعض أنواع العنف الخارجي و التي يكون العنصر الداخلي فيها ضحية
تنتج أنه مهما كانت أشكال، أسباب وتجليات العنف المدرسي فإنه يبقى سلوكا مكتسبا يتعلمه الأشخاص كما يتعلمون مختلف أنماط السلوكات الأخرى ، وأنه سلوك غير مدني لم يزده التطور إلا استفحالا، مما جعل العنف المدرسي يتجاوز كل الحدود والأعراف التقليدية المتوارثة، لذا ينبغي التحفظ في وصفه بالمدرسي ، لأن ما غدت تعرفه مدارسنا لا يمت للمدرسية بأية صلة ما دمنا أصبحنا نتحدث جرائم خطيرة تشمل الاختطاف، القتل، الاغتصاب الجماعي، الضرب والجرح، المخدرات ناهيك عن الجرائم الإليكترونية… وغيرها من أشكال العنف التي لا تختلف في شيء عما هو متداول في عالم الجريمة العابرة للقارات…
صحيح أن العنف المدرسي قد يكون نتاجا لفقدان الارتباط بالجماعات الاجتماعية التي تنظم وتوجه السلوك ، أو نتيجة لفقدان الضبط الاجتماعي الصحيح ، أو نتيجة لاضطرابات في أحد الأنساق الاجتماعية، الاقتصادية و السياسية ، أو نتيجة خلل في إحدى مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تعد المدرسة واحدة منها… لكنه في جميع الحالات يبقى تعبيرا عن سيادة اللامعيارية في المجتمع وانعكاسا لاضطراب في القيم. و مؤشرا خطيرا على غموض المستقبل الذي نتوجه إليه لأنه يقع في المؤسسة الموكول إليها إعادة المعيارية وترسخ قيم المواطنة، ما دام هذا العنف يتفاقم يوما بعد يوم في كل الاتجاهات :
- أفقيا في أوساط كل الفئات والشرائح المتفاعلة في الوسط التعليمي التعلمي
- عموديا في جميع المستويات والأسلاك التعليمية
- نوعيا بابتكار طرق جديدة لم تكن معلومة ومتداولة مستفيدة من التطور المعلوماتي والتكنولوجي.
- جغرافيا بأن أصبح العنف المدرسي يلامس كل المناطق بما فيها تلك النائية في المغرب العميق الذي كانت إلى عهد قريب تقدس المدرسة وتعتتبر محيطها حرما لا يلجه الغرباء… وما تناقلته وسائل الإعلام من جرائم ذهب ضحيتها تلاميذ ومدرسون في وارززات، سيدي بوعثمان، تارودانت إلى دلائل على أن العنف المدرسي استشرى في الجسد التعليمي كله …
هكذا يتضح إذن، أننا أمام ظاهرة بنيوية تتداخل فيها أطراف متعددة، وتتعدد أسبابها وأن العنف في الحياة المدرسية ليس سوى تقزيم لعنف تشهده الحياة العامة، يستحيل والقضاء عليه نهائيا، وأقصى ما يمكن التفكير فيه هو كيفية تلطيف هذا العنف إلى حد مقبول، وأن هذا المستوى المنشود لا يمكن أن يتحقق دون إيجاد آليات للتنسيق بين مؤسسات التنشئة الاجتماعية (الأسرة/ المدرية/ المجتمع )، وأن الإشكال لا يكمن في تلك المؤسسات في حد ذاتها وإنما الإشكال في التنسيق بينها، فالأسرة والمدرسة تقومان بأدوار تربوية جبارة لكن مجهودهما في الغالب الأعم يذهب سدى ، وكانت دقائق قليلة للتنسيق كافية بجني ثمار ذلك المجهود وتجنيب النشء كوارث كثيرة ، ومن تمت فالعمل كل العمل يجب أن يتوجه إلى تجسير العلاقة بين المؤسسات التربوية وخلق آليات للتشاور والتنسيق، والنزول إلى الميدان ومحاولة إيجاد حلول لكل حالة بعينها، وتجنب الثقافة المنبرية القائمة على الوعظ الإرشاد واقتراح الحلول النظرية التي غالبا ما تكون هي أداة عنف أو سببا مباشرا في العنف.