لوحات الفنان المغربي تدعو إلى الحرية وتنتفض ضد رموز التسلط والاستعباد
كتب عبد الرحيم الخصار
ملخص
يعود الكاتب والفنان المغربي محمد حمودان المقيم في فرنسا إلى طنجة ليقدم لوحاته الجديدة في معرض تشكيلي حمل عنوانين في الآن ذاته: “ألف نشيد بعد الغرق” و”خيمياء”. وهي لوحات صارخة تهيمن عليها موضوعات التمرد والرفض وعدم الامتثال لكل ما يكبل الإنسان الراهن.
يقترح الشاعر والمترجم والتشكيلي المغربي محمد حمودان في معرضه الجديد مجموعتين من اللوحات التي شُكّلت بمواد عضوية وأخرى معدنية، وتجمع هذه الأعمال المعروضة في قاعة محمد الدريسي للفن المعاصر في مدينة طنجة بين الطابع الروحي والمادي، في إشارة إلى الصراع اليومي الذي يعيشه الإنسان الراهن، بحيث تتجاذبه نزعات حسية متداخلة، تفرضها طبيعة الحياة الجديدة، إلى جانب نداءات روحية تطفو من حين لآخر لتذكر الإنسان بإنسانيته. فحمودان الذي تناول هذا الصراع المادي الروحي في رواياته وأعماله الشعرية، يعيد طرح هذه الموضوعة، لكن هذه المرة داخل حوامل وإطارات التشكيل، سواء على القماش أو الكرتون أو المعدن.
يحاول حمودان أن ينقل إلى رواق العرض ما تستطيع الألوان والصور التعبير عنه في مساحات تأويلية تتجاوز المكتوب. لهذا يفسر كتالوغ المعرض خيار الكاتب المغربي في التعبير عن أفكاره بصرياً بدل تدوينها، فـ”ألف نشيد بعد الغرق” و”خيمياء” يختبران “الحدود بين الرسم والشعر، ويضفيان على الفن بعداً تحررياً يعبر عما تعجز الكلمات عن التعبير عنه”. لا تنقل اللوحات المعروضة التاريخ الشخصي لصاحبها فحسب، بل تمتد إلى التاريخ الإنساني بصورة عامة، بل تاريخ الكون.
فإذا كانت إحدى اللوحات تحمل عنوان “مسقط الرأس” في إشارة إلى قرية المعازيز التي ولد بها حمودان وثانية عنوانها “جمهورية القراصنة” في إشارة إلى مدينة سلا التي عاش بها الشاعر والفنان شبابه الأول، فإن لوحة أخرى تحمل عنوان “الانفجار العظيم” لتعود بالمتلقي إلى تاريخ الخلق. وبين الزمنين يظهر زمن ثالث ذا طابع تراجيدي، ففي لوحة بعنوان “الأندلس” يوظف الفنان المغربي ألوان الغروب في ترميز إلى سقوط الأندلس خلال واحدة من المراحل المفصلية المهمة في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية. تطل الميتافيزيقا أيضاً من سلسلة “خيمياء”، عبر لوحات من قبيل “باب الله” و”أصل العدم” و”برزخ”. كما تحتفي بعض أعمال الفنان بالكاتب الراحل محمد خير الدين، عبر تسمية اللوحات بعناوين مؤلفات هذا الكاتب الذي يعتبر أحد أبرز وأشرس الكتاب المغاربة الذين كتبوا باللغة الفرنسية. فمن بين هذه اللوحات التي حملت عناوين كتب خير الدين نجد “النباش” و”شمس عنكبوتية”.
دفاعاً عن الوجود الحر
تطغى على أعمال حمودان البصمة الشعرية، فالشعر الذي يكتبه منذ ثلاثة عقود ونيف يتسرب إلى لوحاته، إن على مستوى توظيف الألوان، أو على مستوى الخطوط والمنحنيات، فنحن أمام أعمال تتسم بالطابع الحلمي، وبالرغبة في الانعتاق من الواقع، ورسم إحداثيات جديدة له مستمدة من الخيال.
ولا يحضر الشعر في معرض “ألف نشيد بعد الغرق” و”خيمياء” بصورة ضمنية فحسب، بل يتجلى صريحاً عبر قراءات سجلها الشاعر في فيديوهات فنية تبث بصورة رقمية في إحدى زوايا المعرض، إضافة إلى قراءات حية يقوم بها الشاعر من حين لآخر في معرضه، كأنما يريد أن يدافع عن فكرة مفادها أن الشعر والتشكيل ليسا منفصلين عن بعضهما، بل هما وجهان لعملة واحدة هي اللغة، لغة الترافع عن القيم الإنسانية والانتصار للجمال الدفين في الكائنات، على رغم مما يظهر بينها من صراعات ونزاعات معظمها غير قابل للتبرير.
تشي أعمال حمودان بكثير من التمرد والرغبة المستمرة في الخروج من مناطق المهادنة، والوقوف ضد كل الأبنية التي تكبل الإنسان وتستعبده أو تحد من حركيته داخل الوجود. وهذه السمة تطبع مختلف أعماله الأدبية والفنية. فقد توسل صاحب “هجوم” و”الحلم الفرنسي” و”ميكانيكا بيضاء” لغة صارخة ومتوحشة ومبطنة بالسخرية السوداء، في سياق من التمرد على كل الإطارات التي تقزم وتحجم في الامتداد والوجود الحر. لهذا كان حمودان قد صرح باكراً بخياره الفكري: “باختصار، أميل، منذ أن بدأت قراءة الأدب، إلى الكتاب الصعاليك في كل اللغات، لكن لا أجدني تابعاً لأي قبيلة شعرية”. بالتالي فإن وظيفة المنجز البصري بالنسبة إليه هي الاستمرار أيضاً في رفع لافتات الاحتجاج ورفض الرضوخ لأي سلطة فوقية. إن مسألة تحرر الكائن في تصوره مسألة غير منتهية وغير محسومة، بل هي دائمة ومستمرة ما دامت الحياة البشرية مفتوحة ومتواصلة. إن “التمرد هو العماد الحقيقي للحرية”، كما كان يقول هنري ديفيد ثورو رائد الفلسفة المتعالية، بالتالي فالرضوخ لا يقود إلا إلى العبودية.
مكر الألوان
يحضر اللون الأحمر على هيئة لطخات أو بقع دم في ما يشبه الإدانة لما يعرفه عالم اليوم من إراقة دماء ليس بسبب الحروب فحسب، بل بسبب أعمال العنف أيضاً التي شهدها العالم لدوافع أيديولوجية أو عرقية أو بسبب تفاقم أحقاد راكمتها سياقات اجتماعية واقتصادية. في لوحة تحمل عنوان “كتاب مقدس” يغطي الأحمر كتاباً ويمتد إلى جوانبه، ربما في إشارة إلى الاغتيالات التي طاولت عدداً من المثقفين والمفكرين الذين أحرجت آراؤهم الأنظمة السياسية أو المجموعات الرجعية. وفي لوحة بعنوان “غزة” لا يظهر بصورة جلية سوى الخراب والدم. إن وظيفة الفن هي إدانة كل اعتداء على الكائن وتضييق على حريته. وحمودان سواء بكتاباته أو لوحاته أو تصريحاته للإعلام منحاز بصورة كبيرة إلى هذا النوع من الإدانة. فهو يرفض أن يكون العنف بديلاً للحوار والتفاعل الثقافي، سواء كان هذا العنف ممارساً من لدن الفرد أو الجماعة.