إعادة بناء سردية وطنية عميقة..المغرب لم يبدأ مع الفينيقيين..

191

هذا المقال الذي كتبه عدنان الدباغ وفيه يقارب أفكارا جديدة تناقض كلية كل السرديات التي جعلت المغرب عبر تاريخه يبدأ مع الفينيقيين …كما جاء في الكتب والمناهج التعليمية …الحاجة اليوم إعادة كتاب تاريخ مغربي خالص عميق …بعيدا عن القوالب الجاهزة التي زرعت في عقول أجيال كثيرة من المغاربة …سردية وطنية جديدة مغايرة عميقة …هذا هو المطلوب ثقافيا وبيداغوجيا وسياسيا …مقال يستحق النشر فيه افكار جديرة بالتفكير والاحترام.

بقلم عدنان الدباغ

“إعادة التفكير في التاريخ، وإعادة تأسيس السردية الوطنية”، تمثل قراءة تأسيسية، تؤكد أن كل طموح وطني، وكل سياسة خارجية، وكل مشروع تنمية مستدامة، لا يمكن أن يبدأ إلا من سيادة ثقافية مكتملة الوعي. من خلال إبراز الجذور العميقة للمغرب، وغنى إرثه، وضرورة بناء سردية جامعة ومتجذرة.

إعادة التفكير في التاريخ، وإعادة تأسيس السردية الوطنية

لقد قلبت الاكتشافات الأركيولوجية في السنوات الأخيرة — من جبل إيغود إلى واد بهت، ومن كاش كوش إلى مستحاثات الأطلس — السرد التقليدي لتاريخ المغرب. تدعونا هذه الاكتشافات إلى إعادة التفكير في بلدنا، لا كأرض استقبلت متأخرة حضارات وافدة، بل كأحد المواطن الأولى للإنسانية. وهذا الرجوع إلى الأصل ليس حنينًا إلى الماضي، بل هو بداية مشروع استرجاع ثقافي واستشراف حداثي.

ينبغي القطع مع الفكرة التي ترى أن المغرب لم يتصل بالحضارة إلا مع قدوم الفينيقيين، وكأن هذا البلد العريق ظل ساكنًا، بلا تاريخ، إلى أن جاءه بحّارة أجانب ليخطّوه في كتاب الحضارات. وكأن هذه الأرض انتظرت في صمت أن تطرق الحضارة بابها. هذه الصورة التي طالما رُوّجت في المقررات المدرسية والخطابات الرسمية، باتت اليوم مرفوضة من قِبَل علوم الآثار والأنثروبولوجيا والباليوأنثروبولوجيا. وهي مرفوضة أيضًا، في العمق، من قِبَل الذاكرة الكامنة لشعب لم يتوقف قط عن الوجود، والخلق، والتوريث.

لقد كشفت اكتشافات جبل إيغود، قرب اليوسفية، عن بقايا إنسان عاقل تعود إلى 320 ألف سنة — وهي الأقدم عالميًا. وهكذا يصبح المغرب من المواطن الأصلية للإنسانية، إلى جانب شرق إفريقيا، فيُعاد رسم خريطة التاريخ البشري. ليس على الهامش، بل في المركز.

وفي واد بهت، غير بعيد عن الرباط، كشفت آثار مجتمع فلاحي معقّد، من أواخر العصر الحجري الحديث، عن تنظيم مستقر وهيكلة واضحة، تمثل منعطفًا حاسمًا في مسار الإنسان. أما في كاش كوش، قرب تطوان، فقد تم إثبات الاستيطان منذ سنة 2200 قبل الميلاد، أي قبل أي وجود فينيقي، وذلك بمساكن منظّمة وتبادلات مع ثقافات مجاورة. أما في جبال الأطلس، فإن مستحاثات الديناصورات والآثار الطبيعية تحفر لتربتنا موضعًا في الذاكرة الكونية.

هذه المعطيات لم تعد مجرد روايات، بل حقائق علمية مثبتة. لا تدخل في باب الدعاية، بل في صلب المعرفة الرصينة. وتستوجب نتيجة واضحة: المغرب بلد وُلد مع الإنسانية. لم يكن أرضًا تنتظر التمدن، بل موطنًا تم فيه تصور الإنسان، وتشكيله، واستقراره.

هذا الواقع يدعونا إلى مساءلة السرد الوطني كما شُيّد عبر الزمن. فقد بُني، في كثير من الأحيان، على رؤية مجزأة، تُقصي الفترات ما قبل الإسلامية إلى الهامش، وكأنها لا تنتمي إلى العالم نفسه. غير أن هذا الماضي ليس مجرد خلفية أثرية، بل هو نسيج حي، وهوية تأسيسية، ومصدر استمرار.

ينبغي هنا استعادة حقيقة تاريخية كثيرًا ما تم تمييعها: المغرب لم يكن في الأصل شعبًا سامي الثقافة. بل تأسس على قاعدة أمازيغية قديمة، ضاربة الجذور في هذه الأرض. وبعدها، أغنى التفاعل مع الحضارات السامية — وخصوصًا الإسلام واللغة العربية — روحه، دون أن يمحو أساسه.

إن الاعتراف بهذه الأسبقية التاريخية لا يعني نفي الإسهام العربي، ولا إنكار الهويات التي يعيشها اليوم جزء كبير من المغاربة. بل هو، بالعكس، إقرار بأن فرادتنا تنبع من قدرتنا على الاستقبال، والامتزاج، وبناء وحدة من التعدد.

وهذا الرجوع إلى الأصل لا قيمة له إن لم يكن منصبًا على مشروع مستقبلي. ليس القصد منه تقديس الماضي، ولا الاحتماء بنقاء مزعوم. بل هو إعادة بناء سيادة ثقافية قائمة على معرفة الذات. سيادة متجذرة، لا إقصائية، بل مستقلة. سيادة مطمئنة، متجذّرة، قادرة على استشراف الآتي.

تلك السيادة لا تُبنى إلا من خلال إعادة الاعتبار للتنوع كمرتكز للوحدة. ففي مغرب التعدد، فإن التنوع اللغوي والثقافي والجهوي ليس مشكلةً يُراد حلّها، بل كنز يجب تنظيمه. فالوحدة الوطنية لا تقوم على التنميط، بل على الاعتراف المتبادل. ولن نستطيع بناء عيشٍ مشتركٍ صلبٍ ومشروعٍ ودائم، إلا إذا اعترفنا فعليًا بجميع مكونات تاريخنا.

ومن هذا المنطلق، ينبغي إعادة كتابة مقرراتنا الدراسية. ليس ذلك مجرد فعل رمزي، بل هو ضرورة استراتيجية ملحّة. ما دام أبناؤنا يتعلمون أن تاريخهم يبدأ مع “الآخر”، فسيبقون أسرى تبعية رمزية. نحن بحاجة إلى بيداغوجيا تاريخية تعيد للمغرب عمقه، وتعقيده، وفرادته. بيداغوجيا تُعلّم أن هذا البلد ساهم، منذ بداياته، في صناعة التاريخ الإنساني، ولم يتوقف قط عن رسم مصيره بنفسه.

ويجب أن ينعكس هذا العمل الاسترجاعي على علاقتنا بالحداثة. لمغرب يستطيع، ويجب عليه، أن يصير دولة حديثة، عادلة وفعّا لكن هذه الحداثة لا ينبغي أن تكون نسخًا. بل يجب أن تكون أمينة لذاكرتنا الجماعية، لجغرافيتنا البشرية، لثقافتنا السياسية. لا يتعلق الأمر بإحياء تقليد جامد، بل بإبداع حداثة صادقة مع ذاتها.

نحن لا نحتاج إلى قومية ضيقة، بل إلى وطنية واعية، متجذّرة، معتزّة. إلى سيادة ثقافية تمكّن المغرب من أن يكون سيّد سرده، وسيد تنميته، وسيد مستقبله. في زمن تعيد فيه القوى الكبرى تأكيد هوياتها، وتتفتت السرديات، ينبغي لنا أن نقترح سردية مغربية عميقة، منفتحة، منتظمة، تربط الماضي بالحاضر، وتمنح المستقبل عمودًا فقريًا.

نعم، المغرب لا يبدأ مع الفينيقيين.
إنه يبدأ مع الإنسانية.
والمطلوب منا أن نجعل من هذه الحقيقة قوةً نُبنى بها.

 

تحميل المزيد في أبرز المواضيع
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

بودكاست أسفي اليوم يستضيف الفنانة التشكيلية مريم أمسين