الفقيه الكانوني وقضايا التصوف (4)

1,858
  • الدكتور عبد الحفيظ نيار

من خلال ما وقفنا عليه سابقا في الأجزاء الثلاثة الماضية، يمكن القول إن الفقيه الكانوني رحمه الله تمكن بجهده الفردي من صون جزء كبير من ذاكرة منطقة أسفي، وبفضل هذا الجهد يمكن لنا أن نتصور اليوم الإطار العام والملامح الأساسية للنسيج الثقافي والإجتماعي والسياسي الذي تشكلت فيه الشخصية الأسفية، والتي ارتكزت في بنائها الحضاري على التصوف واعتمدت عليه في تكوين هويتها الثقافية منذ دخول الإسلام للمنطقة.

وإذا كان الكانوني المؤرخ قد قام في عمله برصد مختلف المظاهر الحضارية والثقافية وغيرها بالمنطقة، فإن شخصية الكانوني الفقيه والمصلح هي التي ستتولى إغناء هذه الكتابات التاريخية بنظرات نقدية ذات قيمة علمية كبيرة، خاصة حين يتعلق الأمر بموضوع جوهري مثل “التصوف”، وما أثاره ذلك من نقاشات واسعة داخل الطرح الإصلاحي كيفما كان توجهه في تلك الفترة بالعالم الإسلامي.

وسيتولى المحور الآتي تسليط الضوء بإذن الله على آراء الكانوني رحمه الله في أهم المباحث والقضايا الصوفية التي اختلفت حولها آنذاك تلك المدارس الإصلاحية.

4/ المباحث والموضوعات الصوفية:

أثارت الأصول التي وضعها الصوفية لطريقتهم كثيرا من النقاشات، وخاصة عندما أصبح المنهج الصوفي سلوكا عاما في المجتمع ولم يعد مقتصرا على الخاصة من الناس، ومن بين الأصول التي نالت حظا وافرا من النقاش إلى يومنا الحاضر، ضرورة اتخاذ الشيخ لسلوك طريق التزكية، أما باقي القواعد الصوفية فهي متفرعة عن الخلاف في هذا الأصل، ومن بينها الجدل الدائر بين علماء المسلمين حول وسائل هذه التزكية فنمهم من يجوّز للشيوخ وضع أوراد وأذكار لمريديهم ويجوّز لهم الاجتماع عليها، ومنهم من يعتبر الأمر بدعة وشرع يضاهي ما شرّعه الله ورسوله، ومن الوسائل التربوية التي اعتمدها الصوفية والتي أسالت الكثير من المداد أيضا مسألة الإنشاد والسماع. والملاحظ أن النقاش يزداد حدة عند مواجهة مخاطر التهديد الأجنبي، حيث يعتبر البعض أن ما آلت إليه الأوضاع في المجتمع الإسلامي من ترد كان نتيجة للخروج عن الدين الإسلامي وابتداع طرق واتباع شيوخ يعبدون من دون الله ويشرعون ما لم يأذن به الله، كما يرون أنه ينبغي لتصحيح الأوضاع والرجوع إلى القوة والمنعة في مواجهة التهديدات الخارجية لابد من إصلاح أمر الدين والعودة به إلى أصوله وإلى ما كان عليه السلف الصالح، وترك جميع البدع ومحاربتها والتي من بينها البدعة الصوفية حسب وجهة نظرهم.

بل وصل الأمر لحد تكفير هؤلاء الصوفية في بعض بلدان العالم الإسلامي دون تمييز بين ما هو تصوف سني وآخر بدعي، وبما أن فقيهنا كان من دعاة الإصلاح والدعوة لما كان عليه سلف الأمة الصالح في تلك الفترة، فسنحاول التعرف على رأيه في مسألة مركزية الشيخ المربي في سلوك طريق التربية والتزكية، وما موقفه من شيوخ التصوف الذين ارتبط تاريخ أسفي بسيرتهم وأعمالهم هذا ما سنراه في النقطة التالية.

أ ــ دور الشيخ المربى وضرورته عند الصوفية.

تؤكد المدرسة الصوفية على أهمية الشيخ تربية وصحبة ، وفى ذلك يقول ابن عطاء الله السكندرى: “واعلم أن العلماء والحكماء يعرفونك كيف تدخل إلى الله تعالى ، هل رأيت مملوكا أول ما يشترى يصلح للخدمة ، بل يعطى لمن يربيه ، ويعلمه الأدب، فإن صلح وعرف الأدب قدمه للملك، كذلك الأولياء رضي الله عنهم يصحبهم المريدون حتى يزجوا بهم إلى الحضرة، كالعوّام إذا أراد أن يعلم الصبى العوم يحاذيه إلى أن يصلح للعوم وحده، فإذا صلح زجه في اللجة وتركه[1]“.

فالمدارس الصوفية إذن متفقة فيما بينها على أن “أخذ العلم والعمل عن المشايخ أتم من أخذ دونهم {بل هو آيات فى صدور الذين أوتوا العلم}، {واتبع سبيل من أناب إلي}، فلزمت المشيخة ؛ سيما والصحابة أخذوا عنه عليه الصلاة والسلام وقد أخذ هو عن جبريل ، واتبع إشارته في أن يكون عبدا نبيا، وأخذ التابعون عن الصحابة، فكان لكل أتباع يختصون به كابن سيرين وابن المسيب والأعرج لأبى هريرة، وطاووس ووهب ومجاهد لابن عباس إلى غير ذلك. فأما العلم والعمل فأخذه جلي فيما ذكروا وكما ذكروا، وأما الإفادة بالهمة والحال فقد أشار إليها أنس بقوله: ((ما نفضنا التراب عن أيدينا من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا )) فأبان أن رؤية شخصه الكريم كان نافعا لهم في قلوبهم إذا من تحقق بحالة لم يخل حاضروه منها، فلذلك أمر بصحبه الصالحين ونهى عن صحبة الفاسقين[2]“.

ويدلنا الشيخ أبو الحسن الشاذلي على ما ينبغي أن يكون عليه الشيخ فيقول: “ليس الرجل من دلك على تعبك، إنما الرجل من دلك على راحتك[3]“، ويقول أيضا : “الشيخ من دلك على راحتك لا على تعبك”، وقال الشيخ ابن مشيش لما سأله الشيخ أبو الحسن عن قوله صلى الله عليه وسلم : «يسروا ولا تعسروا»، “يعنى دلوهم على الله ولا تدلوهم على غيره، فإن من دلك على الدنيا فقد غشك، ومن دلك على العمل فقد أتعبك، ومن دلك على الله فقد نصحك[4]“.

وقد قرر الشيخ زروق عدة قواعد تتعلق بالاقتداء واتخاذ الشيخ، ومن يجوز للسالك أن يتبعه ويتخذه قدوة، وعلامات القدوة المتبَع، وحاصلها استقامة الظاهر على الشريعة، فإنه يعرف باطن العبد من ظاهر حاله، لأن الأسرة تدل على السريرة، وما خامر القلوب فعلى الوجوه أثره يلوح[5]، وهذا هو المقرر في التصوف المغربي ففي نظم ابن عاشر:

( يصحب شيخا عارف المسالك      يقيه في طريقه المهالك)

(يذكــــــــــره اللــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه إذا رآه      ويوصل العبد إلى مولاه)

ويزيد ميارة البيتين شرحا نقلا عن ابن عباد : “ولابد للمريد في هذه الطريق من صحبة شيخ محقق مرشد[6]“. وقد أثار سؤال ضرورة الشيخ في طريق القوم أم الإكتفاء بالكتب إحدى القضايا الهامة التي تولدت عنها مراجعات وردود بين علماء القرن الثامن الهجري خاصة في الأندلس، وذلك لأن مجال التصوف أصبح راسخا داخل الشعور العام في هذا المجتمع، مما نتج عنه أن أصبحت بعض قضاياه تستدعي حَمية وتعنيفا بين طلبة العلم، وليخرج بعدها النقاش من إطاره الحجاجي، إلى إطار يبرز فيه العنف عاملا للدفاع عن الأفكار والمعتقدات.

إن النقاش المثار حول ضرورة الشيخ المربي استدعى انخراط العلماء للإجابة عن هذا الإشكال المطروح، والذي يمكن أن يكون سببا في خلخلة وحدة الأفراد داخل المجتمع.

وقد أدى هذا الاختلاف إلى أن يرسل الإمام الشاطبي (790هـ) إلى كل من الفقيهين المغربيين: أحمد القباب (778هـ)، وابن عباد الرندي (792هـ) يستفتيهما في قضية الاكتفاء بالكتب دون الشيخ، أم أن الشيخ ضروري في السلوك التربوي[7]؟

ليعود النقاش أشد عنفا مع ظهور الوهابية ومحاولتها نشر منهجها في العالم الإسلامية، حيث يرى هذا التيار أن اتخاذ شيخ التربية وفق المنهج الصوفي هو من البدع المستحدثة التي لا أصل لها في الشرع وبالتالي فالمكلف المسلم مطالب بإصلاح نفسه باتباع ماورد في الكتاب والسنة وسؤال أهل العلم عن كل ما يشكل عليه في أمور دينه[8]. وبما أن هذا النقاش قد عاد بحدته للمغرب في فترة الفقيه الكانوني وقبله بقليل، فقد أشار إلى موقفه من هذه القضية في العديد من النصوص، من بينها ما سبقت الإشارة إليه، حيث ينعت الكثير من الشيوخ بالمربين ويترضى عنهم، أما بخصوص المسألة فيمكن استخلاص رأيه من النص الآتي حيث قال : ” وإذا مات الشيخ انقطعت التربية المصطلح عليها بين الصوفية ويبقى المنتسبون إليه يجتمعون في زاويته على تلك الأذكار التي لقنها لهم ويقيمون الصلوات الخمس في الزاوية، ويرتب لها…..وحيث انقطعت التربية بموت الشيخ، وصارت الزاوية مفتوحة الأبواب لكل مصل، وصارت لها ميزة المساجد، فإنها تعتبر فيها أحكام المساجد”.[9]

كما يقول أيضا ” هذا الرباط بأسفي هو مركزه الوحيد طار له الصيت في الآفاق وشدت إليه الرحلة  الرفاق فكم تخرج منه من الائمة الأعلام والشيوخ المرشدين الأعلام الذين كانوا نجوما يهتدي بهم الأنام”[10].

فيستشف من جل هذه النصوص أن الفقيه لم يخرج رأيه عما سار عليه عموم العلماء في المغرب جواز اتخاذ شيخ التربية، بشروطه المعلومة وهي أن يكون الشيخ من المحققين لأصول الشريعة، أي الجامعين بين العلوم الشرعية والعلم الرباني الموهوب، وقد أشار للشرط الأول بقوله: “والمحققون من الصوفية هم أحق الناس بتحكيم النصوص الشرعية وأولى الناس بحفظ الهيئة الاجتماعية، فالداهية إنما جاءتنا من الأتباع الذين اتبعوهم فلم يحسنوا الإتباع وقلدوهم فلم يحسنوا التقليد ولم يضعوا كلام الشيوخ على مواضعه، بل حملوا عليهم ما لم يقولوا وفهموا من كلامهم مالا يليق بمنصبهم على رغم كون الشيوخ المحققين يصرحون بعرض كلامهم على الكتاب والسنة وأصول الشريعة فما قبلته وإلا فلا”[11].

أما الشرط الثاني فقد اعتبره موهبة ربانية يختص بها سبحانه من يشاء من عباده، فعبر عن ذلك بمثل تعبيرات المنتسبين للتصوف في حق الشيوخ الموهوبين فقال على النحو الآتي ” الحمد لله الذي تولى هداية أوليائه المتقين ورفع درجاتهم في السابقين المقربين ومنحهم من خزائن فضله مالا يوازى من المعارف والمواهب وأفاض عليهم من سجال عطاياه ما صاروا به في الخليقة نجوما ثواقب”[12]

وقد اعتبر الفقيه الكانوني أن الشيخ أبي محمد صالح الأسفي من شيوخ التصوف الذين جمعوا شروط التربية بتمامها فهو بالتالي نموذج لما يجب أن يكون عليه شيوخ هذه الطريق من علم وعمل وحال، لذا خصص الحديث عنه في كتاب خاص يقول في ترجمته :” كان رضي الله عنه من أعيان المشايخ وأكابر العارفين وإمام أئمة السلوك المحققين وصدر صدور العلماء العاملين صاحب الكرامات الظاهرة والأحوال الباهرة والمقامات العلية والأسرار السامية والفتح الباهر السني والكشف الظاهر الجلي أحد من أظهره الله للناس رحمة عظمى وأزاح به الجهالة والعمى وخرق له العادات وقلب له الأعيان وأظهر على يده العجائب وأجرى على لسانه لطائف الأسرار وبدائع الحكم وجعله إماما للمتقين وعلما واضحا للمهتدين فهو أحد أئمة هذا الطريق الشامخين في بحره على التحقيق …جدد الله به معالم الدين والطريق وأوضح به السبيل لمن سلكه على التحقيق”[13].

فتحليته إذن للشيخ أبي محمد صالح تفصح عن رأيه في مسألة اتخاذ شيخ الطريق بشكل جلي لا يحتاج معه إلى مزيد بيان.

ب ــ الأوراد والأذكار والإجتماع عليها:

من أصول الطرق الصوفية المتفق عليها بينهم، اتخاذ ورد يومي من الذكر المأذون من الشيوخ،           إضافة إلى الاجتماع على بعضها بإذن الشيخ، فالأذكار هي العمدة في الطريق والرُّكن الركين في السير والسلوك، والأساس المتين في التخلية والتحلية والترقي، وجميع الخصال المحمودة عندهم راجعة إلى الذكر ومنشؤها عن الذكر؛ مِن ذلك قول الإمام أبو القاسم القشيري: “الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه وتعالى، بل هو العمدة في هذا الطريق، ولا يصِل أحد إلى الله تعالى إلا بدوام الذكر”، وقال كذلك: الذكر هو: “الخروج مِن ميدان الغفلة إلى فضاء المشاهدة على غلبة الخوف وشدة الحب له[14]“.

أما المعارضون فلإن اتفقوا معهم على أهمية الذكر والحث عليه، فقد اختلفوا معهم في ضرورة أخذ الأوراد من شيخ، كما لا يجوزون لأي كان أن يرتب هذه الأذكار وجعلها أورادا للمريدين، فقد جاء في جواب لابن باز عن حكم الأوراد الصوفية “وهذه الرواتب التي يجدها كثير من الناس لا تخلو في الغالب من بدع وخرافات لا أساس لها، وهذا الراتب الذي يظهر مما ذكرتيه أيها السائلة! أنه لا يخلو من بدع وخرافات، فلا ينبغي أن يتخذ ورداً بل ينبغي للمؤمن أن يتخذ الورد مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، وأهل السنة والحمد لله قد أوضحوا ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من آيات وأشياء يقولها في الصباح والمساء، ينبغي للمؤمن أن ينظر فيها وأن يحفظ منها ما تيسر من كتاب رياض الصالحين، ومن كتاب الأذكار للنووي، والوابل الصيب لـابن القيم، وغيرها من الكتب المؤلفة في أذكار الصباح والمساء، ففيها الكفاية عما أحدثه الناس[15]” .

ففتوى ابن باز تضمنت خلاصة رأي السلفية وهم حسب تعبيره” أهل السنة ” في أن المرجع في الأذكار هو الكتاب والسنة أما ما وضعه الشيوخ وبتعبيره ” أحدثه الناس ” فهي من المحدثات وكل محدثة بالنسبة لهم بدعة وضلالة.

أما فقيهنا  الكانوني فيمكن القول بداية أن مسألة وضع شيوخ الصوفية للأوراد والأذكار قصد تربية المريدين والسالكين بالنسبة إليه غير ذات إشكال، مادام قد أقر للشيوخ المؤهلين بمهمة التربية، لكن هذا لا يعفينا من البحث عن  رأيه الصريح في القضية، وهو مالا يحتاج إلى كبير عناء، حيث يمكن الوقوف على العديد من النصوص في تراجم كثير من الأعلام يفهم منها أنهم كانوا يعطون أورادا في طرق صوفية معينة أو أنهم تلقوا أورادا من شيوخ الطرق الصوفية، ففي ترجمته مثلا للفقيه العالم العلامة أبو العباس أحمد بن إبراهيم التناني المدعو الصويري يقول : ” وأخذ الطريقة المختارية عن الحاج العربي العبدوني وعن السيد الطائع القادري الفاسي”[16]فهو إذن لايرى في ذلك غضاضة ولا ينسب هؤلاء إلى البدعية أو الضلالة بل ينعتهم بالعلم والربانية، ولم نر له اعتراض على اجتماع المريدين على أذكار الشيوخ في زواياهم بل ينعت ذلك بالخير ويوافقهم عليه فقال :” وإذا مات الشيخ انقطعت التربية المصطلح عليها بين الصوفية ويبقى المنتسبون إليه يجتمعون في زاويته على تلك الأذكار التي لقنها لهم ” إلى أن قال :” فنحن نوافقهم على الخير الذي هو الذكر والخلوة للعبادة بالزاوية، فنعم الخير”.[17]

ج ـ الإنشاد والسماع الصوفي:

اهتم الصوفية بالسماع الديني ووضعوا له ضوابط وآداب وجعلوه رياضة عملية بقصد ترقيق القلب وتهيئته بإثارة نار الوجد وتذكية نار الحب والشوق إلى الله تعالى، وقد تكلم في موقفهم من السماع بكل وضوح الإمام القشيري في رسالته حيث رأى ” أن سماع الأشعار بالألحان الطيبة والأنغام المستلذة، مباح في الجملة إذا لم يعتقد المستمع محضورا ولم يسمع إلى مذموم في الشرع، ولم ينجر في زمام هواه ولم ينخرط في سلك لهوه”.[18]

لكن من الموضوعية أن نقول أن بعض الفقهاء قد أنكرو عليهم هذا الموقف كابن الجوزي في كتابه “تلبيس إبليس”، أما ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان فقد حاول تقويض كل الأدلة التي احتج بها الصوفية على مشروعية السماع خاصة تلك التي أوردها الغزالي في إحيائه، ولم يقبل من السماع إلا ” ما مدح به رسول الله ودينه وكتابه وهجي به أعداؤه” فالسماع بالنسبة إليه هو ” سماع الآيات لا سماع الأبيات، وسماع القرآن لا سماع مزامير الشيطان”. والحقيقة أن الإختلاف في هذه المسألة يعكس تباين فهم العلماء للدين وتعدد رؤاهم في تناول قضاياه. وفي هذا الإطار نورد نقلا عن الأستاذ محمد السعيدي فتوى للفقيه الكانوني في ” مسألة تكفير المنشدين بالترجيع بلفظ الجلالة او باسم النبي صلى الله عليه وسلم” حيث قال ” قد وقع القيل والقال في هذه الأيام فيما اعتاده المنشدون في الأمداح النبوية وهي أنهم يكملون شطر البيت بمحمد رسول الله أو بالله في حالة الترجيع، فمن قائل يكفر فاعله ومن قائل بحرمته فذكر لي ذلك بعض أصحابنا، فكان من جوابي أن القول بالتكفير والحرمة صعب يحتاج كل لدليل صحيح صريح لا معارض له، والحالة هذه وهو معلوم فكيف يكفر مسلم يؤمن بوحدانية الله ورسالة رسوله ويخرج من الاسلام بمجرد فهم فهمه الرجل من القضايا التي ذكرها في الشفا عن أهل الأندلس والقول بالهجوم كالتكفير والتحريم حرام يحتاج لدليل والمقام الذي ذكر في ذلك مقام مدح وذكر خال عن اللعب والهزل كما هو معلوم.

نعم في ذلك شيء من جهة التركيب والأمر فيه سهل ان شاء الله مع هذا التوقف لا ضرر فيه والله أعلم، انظر أوائل الطبقات للشعراني ففيها الشفاء لمن يقدم على التكفير من غير دليل وقد نقلنا كلامه في الكناش الكبير قيده محمد العبدي في جمادى الأولى من أيام مضت من سنة 1344هـ[19]“.

يتبين لنا من خلال ما سبق أن فقيهنا كانت له آراؤه الخاصة في مثل هذه المسائل الشائكة والتي تفرقت بسببها النخبة المثقفة في العالم الإسلامي إلى تيارات متناحرة لكن هذا لا يعني بالنسبة للكانوني أنه يسلم للمنتسبين للتصوف كل ممارساتهم، فما كان منها موافقا لأصول الشرع فالإختلاف حوله محمود ويبقى لكل فريق رأيه، أما ما خالف الأصول الشرعية فلو أجازه الشيوخ فيضرب به عرض الحائط حسب تعبيره، وفي النقطة الموالية سنتعرف على بعض من الممارسات المنسوبة للتصوف والتي كانت محط انتقاد من الفقيه الكانوني ويرى أنها تخالف أصول التصوف نفسه وغرضه من ذلك كما يظهر إصلاح هذا المجال وإعادته إلى صفائه الأول وما كان عليه السلف من الصوفية الكبار.

للاطلاع على الجزئين السابقين

الجزء الأول 

الجزء الثاني

الجزء الثالث

 

 

[1]  تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس ص14ـ15. دار الكتب العلمية 2013.

[2]  قواعد التصوف للشيخ زروق ص54 دار الكتب العلمية 2007

[3]  لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري  تحقيق عبد الحليم محمود ص145 دار المعارف 2006.

[4]  قواعد التصوف ص 58.

[5]  ينظر قواعد التصوف ص 94.

[6]  الدر الثمين والمورد المعين ص 540 دار الرشاد الحديثة ط1 2007.

[7]  قواعد التصوف ص 54.

[8] لعل أصدق من يعبر عن هذا آراء هذا الإتجاه (وكتاباته منتشرة ومتداولة إلى اليوم وعلى المواقع الإلكترونية)  من العلماء المغاربة في الفترة التي عاش فيها الفقيه الكانوني هو الشيخ الدكتور تقي الدين الهلالي تلميذ محمد بن العربي العلوي والشيخ رشيد رضا شيوخ السلفية آنذاك في المغرب ومصر.

[9] الجواهر الصفية ص27و28

[10] الجواهر الصفية ص 29.

[11] نفسه  ص 29.

[12] البدر اللائح ص 5.

[13] البدر ص 11و12.

[14]  الرسالة القشيرية ج1ص 101 تحقيق عبد الحليم محمود ط دار المعارف

[15]  الموقع الرسمي للإمام ابن باز. https://binbaz.org.sa ومن شيوخ السلفية في السعودية وللإشارة فهو من المعاصرين  لتقي الدين الهلالي المغربي وللفقيه الكانوني أيضا.

[16] جواهر الكمال ج1ص 16.

[17] الجواهر ص 28.

[18] الرسالة ج2ص504

[19]  الفقيه محمد الكانوني للسعيدي ص 129.

 

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في دين وثراث
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

تكريم فعاليات ثقافية بأسفي في اليوم العالمي للرجل