الفقيه الكانوني وقضايا التصوف (3)

2,164

الدكتور عبد الحفيظ نيار

نتابع في هذا الجزء التعرف على ما قامت به زوايا الصوفية من أدوار ووظائف بمنطقة أسفي، وذلك من خلال ما أورده الكانوني رحمه الله في مؤلفاته، وكنا قد تعرضنا في الجزء السابق للدور الديني الذي اضطلعت به الزوايا في المنطقة، ورأينا أنه كان للزاوية الماجرية وشيخها ” أبي محمد صالح” دور ريادي في الحفاظ على صلة المغاربة بالحج، بعدما كادت فتاوى بعض المتفيقهين أن تقوض هذا الركن الإسلامي وتقطع ما أمر الله به أن يوصل، وبهذا يتبين حرص أهل التصوف على التمسك بالشعائر الدينية، والوقوف في وجه كل من يحاول العبث بتدين المغاربة تحت مسميات العلم والفتوى وغيرهما. هذا بالإضافة إلى إسهاماتهم المتعددة في كل ما يخدم قضايا الدين والمجتمع وهو ما سنتعرف عليه في النقاط الموالية.  

ثانيا: الدور التربوي الأخلاقي.

 لقد تبين لعلماء التربية الصوفية أن الكثير من السلوكات والانحرافات السائدة في المجتمعات، ترجع أسبابها إلى تراكم جملة غير متناهية من الأمراض الباطنة في قلوب الناس بسبب الغفلة والبعد عن الله تعالى، ومن جملة هذه الأمراض الباطنية على سبيل المثال لا الحصر الحسد والكبر والشح والرياء وحب الدنيا.وقد نبه الأستاذ سعيد حوى لخطورة هذه العلل القلبية في الحياة الاجتماعية للناس لذلك قال:” وإنه بدون الاستفادة من التجربة الصوفية لا يمكن أن تعالج الكثير من أمراض النفس البشرية [1]” فقد جعل التربية الصوفية من الضروريات الأساسية اللازمة التي لا يمكن الاستغناء عنها لكونها تربية نورانية تشتاق إليها النفوس التي تحب الرحمة والمحبة والتآخي والتعاون على البر والتقوى بين مختلف الشرائح الاجتماعية.

إن مهمة تربية النفوس ومعالجتها كانت ولازالت من أخطر الوظائف وأجلها قدرا، ولذلك لا يستطيع أن يقوم بأمر تزكية النفوس وترقيتها من أراد ذلك، بل يصعب على الإنسان معالجة نفسه وترقيتها بمفرده، ونظرا لجلالة ودقة هذه المهمة التي تحتاج لموهبة خاصة ليست تحت طاقة الإنسان مهما علا شأنه، اصطفى لها سبحانه وتعالى وهم الأنبياء والرسل وأطلعهم على أسرارها واتمنهم عليها وأمرهم بأن يورثوها للربانيين من أممهم، وبالرجوع إلى ماسطره الكانوني رحمه الله في باب التراجم، كثيرا ما نجده يحيل على هذا الدور الخطير الذي قام به الشيوخ في زوايا أسفي، حيث ينعت كثيرا منهم بأوصاف تحيل على معنى التربية والإرشاد فقد حلى الشيخ أبي محمد صالح في كتابه البدر بقوله:     “إمام أئمة السلوك المحققين [2]” وقوله في ولده أبو محمد عبد الله :”الشيخ الفاضل القدوة الهمام المربي الخطير [3]” وفي تلميذه أيضا أبو عبد الله محمد ين عبد الله حرازم ” قال في السلوة هو الشيخ الكبير الولي الشهير العارف الصالح القدوة المربي[4]” ومثله عن الشيخ “أبو شعيب أيوب بن سعيد الصنهاجي المدعو السارية :هو الشيخ الكامل المرشد الواصل العارف الكبير القدوة الشهير[5]” وأيضا في قوله عن” الشيخ الكبير الصالح المربي البركة الواضح سيدي محمد بن يوسف الملقب بكانون “[6].

نستفيد من هذه النعوت والأوصاف أن منطقة أسفي شهدت على مر الأزمنة تأسيس زوايا صوفية كان لشيوخها الدور الكبير في تخليق الحياة العامة، وتربية الناس على الأخلاق الفاضلة، فحاز أهلها بذلك على الثناء الحسن الذي يحق أن يكون موضع افتخار للأجيال المتعاقبة، حتى أنشد القائل في حسن أخلاقهم :

أخلاقكم كالعصر في نفس             ووجوهكم كالبدر في شرف

وقال غيره :

إن لم تعاشر أناسا خيموا آسفي        فقل على عمري قد ضاع وا أسفي[7]

 

ثالثا: الأدوار العلمية والثقافية.

قبل الحديث في هذه النقطة أشير إلى أن العلماء والمؤرخين أقروا بأن الفضل في بقاء جذوة العلم متقدة بالمغرب قبل ظهور الدولة العلوية يرجع إلى ثلاثة من شيوخ التصوف وزواياهم، وقد عبر الفقيه الكانوني عن ذلك بقوله:” إلا أن الله سبحانه وتعالى تدارك العلم بثلاث رجال كانوا ركنا منيعا وحصنا حصينا ولولا وجودهم لكانت الحالة أسوأ والمصيبة أعظم ألا وهم : الشيخ أبو عبد الله محمد بن ناصر بدرعة، والشيخ أبو عبد الله بن أبي بكر الدلائي والشيخ أبو محمد عبد القادر بن علي الفاسي”[8].

من هنا يتبين لنا مدى تهافت الأقوال التي تنسب للزوايا تعميم الخرافة والجهل، ففي كل ربوع المغرب كما كان عليه الحال في أسفي، اعتنت الزوايا بتحفيظ القرآن الكريم[9]وتعليم العلم، وتوفير خزانات الكتب، ولن نعدم الأمثلة على هذا الدور العلمي الذي قامت به جل زوايا أسفي وباديتها حتى وقت قريب، فقد جاء في إشارة للكانوني أثناء ترجمته لأحمد بن بوطيب الحميري أن: “من آثاره تأسيس مسجد الجمعة بزاويتهم وإقامة الجمعة بها، وهو أول خطيب خطب بها، وكانت مدرسة زاويتهم، تعد من المراكز العلمية الدينية، تنير الناس بالعلوم الدينية والقرءانية نحو قرنين إلى أن تقهقرت حالتها الآن كغيرها[10]“.

ولا يفوتنا هنا أن نذكر بما قامت به الزوايا عموما من دور هام في المجال الثقافي، يتجلى ذلك فيما خلفته عبر مختلف العصور من مكتبات زاخرة بتراث نفيس ونادر، وإن كان حجم هذه المكتبات وقيمة محتوياتها تختلف من زاوية إلى أخرى، كما تتفاوت بين الزاوية الأم والزاوية الفرعية، لكن الملاحظ هو أن الزاوية مهما كان حجمها أو مكانتها، لا تكاد تخلو من خزانة للكتب، وهذا فيه دلالة كافية على ارتباط الممارسة الصوفية بالعلوم الشرعية ارتباطا وثيقا.

لكن الذي ينبغي التأكيد عليه في هذه النقطة أن الزوايا مهما أصبحت مراكز علمية فلابد وأن تتوفر على خزانة للكتب، لكن قد يطالها الإهمال والضياع مع مرور الوقت أو التكتم عليها لأسباب مختلفة،[11] وإذا كانت هذه الإلتفاتة لخزانات الكتب بزوايا أسفي وما تحتويه من أعداد للمؤلفات لم تفت فقيهنا الكانوني رحمة الله عليه حيث أشار إليها باقتضاب في مؤلفه ” آسفي وما إليه”، فإن من أجل حسناته المتعددة أنه كان يزور الزوايا بالمنطقة وحين تسمح له الظروف للإطلاع على محتوياتها، فإنه غالبا ما يشير إلى ما يعثر عليه فيها من مخطوطات ونسخ فريدة للكتب، والتي يمكن أن تشكل إضافة نوعية للرصيد العلمي للمنطقة، كتآليف شيوخ هذه الزوايا أو المدرسين الذين مروا بها، كما أنه لا يغفل ما قد تحتويه هذه الخزائن من كتب حسنة الخط أو جيدة التصفيف، ومن أمثلة ذلك ما ساقه في حديثه عن أحد البيوت بعبدة حيث قال: ” بيت الغوليين آل سيدي عبد الله بن رحمون…. ومنهم حفيده الفقيه الفاضل السيد الغازي … كان فقيها بارع الخط رأيت له نسخة من المختصر بخط حسن”[12] وجاء أيضا في ترجمة الولي الشهير السيد مبارك الملقب بأبي قدرة ” رأيت له كتابا صغير الحجم شرح فيه أرجوزة أبي الحجاج يوسف بن محمد الفلالي في علم أسماء الله الحسنى” [13]، وقال أثناء ترجمته لأبي زيد الشوشاوي : له كتاب “الرسالة” إلى أن قال ” وهو في مائة وسبعة وعشرين صحيفة من القالب الصغير وقد فرغ من كتابة هذه النسخة سنة 1230ه بخط الطالب السيد أحمد بن الحاج علال الأسفي رحمه الله[14]“.

هذه إشارات شافية لها من الدلالات العميقة على أن الزوايا في منطقة أسفي ساهمت في البناء الثقافي

والعلمي للشخصية الأسفية مما جعلها تتبوأ أسمى المراتب في المجتمع المغربي، بل ويختار النجباء من أبنائها لمزاولة مجموعة من المهام في أجهزة ودواليب الدول المتعاقبة على حكم المغرب، بل منهم من تقلد مهام خاصة كالسفارة وغيرها أو أرسل في إطار بعثات علمية لأروبا[15].

رابعا: الدور الجهادي.

يتفق العديد من الباحثين على أن الزاويا تعد إلى جانب كونها مدارس تربوية وأخلاقية وتثقيفية، حصونا عسكرية تعمل على التسلح من أجل الجهاد في سبيل الله، ولهذه الغاية فهي تعمل على تسليح المجاهد من الناحية النفسية بتصحيح حقيقة الإيمان وتقوية اليقين في الله تعالى، وتطهير النفس من التعلق بهاته الدار الفانية، لأن المسلم المرابط إذا لم يكن قوي اليقين في الله تعالى فلن تتوفر لديه القوة المعنوية التي هي الركن الأساسي لتكوين الجندي المجاهد الشجاع، فالمؤمن المسلم المرابط بالزاوية تتكون لديه القناعة الكاملة بما وعد الله به المجاهدين، ومعلوم ان جهاد النفس أشد جهاد وأصعبه وأدومه وهو جهاد الليل والنهار وفي العسر واليسر، وفي الضيق والسعة وفي العقيدة والعبادة والمعاملة وفي العزلة عن الناس والاجتماع بهم وهو جهاد بالفكر والذكر والصوم والصبر وكل أسباب التقوية الروحية ،وهو جهاد يستدعي أن يكون الإنسان يقظا واعيا فالصوفي الحقيقي هو الذي يهتم بتصفية نفسه، وتزكيتها ومجاهدتها للانتقال من النفس الأمارة إلى اللوامة المطمئنة فالراضية فالمرضية.

وبالعودة لمؤلفات الكانوني سنلاحظ أنها مليئة بالأمثلة على قيام الصوفية بالدور الجهادي في هذا الثغر والذي كان معرضا في كل وقت وحين لغارات الأعداء، وقد سجل المؤلف مرابطة أهل التصوف بمداد العزة والفخر وهو واقع مترسخ في الذاكرة الجماعية للأمة المغربية، ومن خلال تتبع التراجم التي ساقها الفقيه لأهل القباب بأحواز أسفي، نكاد نزعم أن الغاية الكبرى من تأسيس الزوايا والأضرحة على طول الشريط الساحلي للمنطقة مرتبط بالجهاد والمرابطة. و قبل إدراج الأمثلة عن قيام الصوفية بدور الجهاد وتحصين ثغر أسفي، لابد من التقديم بمثالين لهما من الدلالة في إسهام الزوايا الصوفية بمنطقة أسفي في قيام الدول المتعاقبة على حكم المغرب التي بويع سلاطينها من أجل الجهاد وتحرير الثغور .

فينقل لنا الكانوني عن غيره أن أول من أدخل الإسلام للمنطقة عقبة بن نافع الفهري، وترك بعض أصحابه بها يعلمون الناس القرآن وشرائع الإسلام، منهم “شاكر صاحب الرباط الشهير” بحوز أسفي. ونقل أيضا عن صاحب التشوف أن للرجال السبعة من رجراجة مع البرغواطيين مواقف مشهورة وحروب وأن يعلى بن مصلين الرجراجي غزاهم مرات وأن طبله هو الباقي برباط شاكر. ثم التحق هؤلاء المجاهدون من رجراجة بالمرابطين بعد وصولهم شيشاوة وساهموا معهم في استئصال الطائفة البرغواطية وإعادة الإسلام لأسفي.[16]

أما المثال الثاني فهو تأسيس الشيخ محمد بن سليمان الجزولي لزاويته بأسفي، وإسهام مريديها في قيام الدولة السعدية وطرد الاحتلال البرتغالي من الثغور المغربية وقد أشار الكانوني إلى أن مؤسس هذه الدولة يظهر هذا الإرتباط بالزاوية الجزولية عند مروره بأية منطقة في المغرب لإخضاعها أو تحريرها من المحتل، مستفيدا بذلك من انضمام مريديها لحملته من أجل توحيد المغرب وطرد الاحتلال الأجنبي، قال الكانوني:  ” فجاء أبو العباس ووالده ونزلا بزاوية الشيخ أبي عبد الله سيدي محمد بن سليمان الجزولي بافوغال من بلاد الشياظمة وذلك سنة 922هـ، ثم تجاوزا إلى بسيط قبيلة عبدة”[17]. وقد قيل إن تقليد حمل كتاب ” دلائل الخيرات” للجزولي في الفروسية متوارث إلى يومنا هذا منذ ذلك العصر، بسبب حمل المجاهدين له في تلك الفترة تبركا به وتوسلا إلى الله، لينصرهم على البرتغال خاصة في معركة وادي المخازن وقيل غير ذلك، لكن المؤكد هو دور هذه الزاوية في قيام الدولة السعدية بسوس.

أما عن مساهمة صوفية أسفي في الدور الجهادي على مر العصور، فقد حفظت بعض الوثائق وتقاييد العلماء وظهائر السلاطين منها النزر اليسير، أما سيرة أغلبهم فللأسف لم تحظ بالتوثيق، حيث تكفلت الذاكرة الشعبية بذلك إما عن طريق الرواية الشفهية أو بحفظ ذكراهم ببناء القباب والأضرحة على قبورهم كشاهد اعتراف على تضحياتهم، ولعل انعدام التوثيق راجع بالإضافة إلى عدم اهتمام المغاربة به واهمالهم للتاريخ كما عبر عن ذلك الكانوني وغيره، راجع لكون ظروف القتال قد لا تسمح بالتعارف، كما أن من غايات المجاهدين الإبتعاد عن الشهرة حتى يكون جهادهم خالصا لوجه الله.

وممن نقل مؤرخ أسفي مساهمتهم في الجهاد من الصوفية ممن لازالت أضرحتهم منصوبة في أحواز أسفي ” الولي الشهير سيدي لحسن بن رحو بن موسى الدكالي،…. وكان ممن خرج من أولاده من تاسوت مقر أسلافه قاصدا قتال البرتغال أيام احتلال آسفي واستقر حيث ضريحه مرابطا إلى أن توفي رحمه الله، وقد أسس عليه القبة القائد محمد بن عمر بن عيسى الثمري[18]” وأيضا ” الولي المبارك أبو العباس أحمد بن الراضي حفيد الولي الشهير سيدي كانون دفين بلاد المويسات كان صاحب الترجمة مستوطنا قبلة ضريح أبي زكرياء المتقدم … وكان رحمه الله ممن حضر غزو البرتغال بالجديدة وأبلى فيها البلاء الحسن توفي رحمه الله ودفن على شاطئ البحر وعليه قبة شهيرة هناك رحمة الله عليه[19]“.

وهكذا فإن الزوايا وشيوخها ومريدوها عاشوا حياتهم وهم على أهبة الإستعداد للدفاع عن أمتهم الإسلامية، والبذل في ذلك المهج والأرواح وقد استطاع الكانوني نقل هذه الصورة المشرقة لهؤلاء من خلال جمع تراجمهم وتقديم المثال عن التصوف الحقيقي الذي كان عليه سلف الأمة المغربية، وأن الخمول وطلب الراحة لم يكن ديدنهم خاصة مع تعرض الدين والوطن لخطر الاحتلال.

خامسا: الوساطة والصلح والتكافل الإجتماعي.

إن من أهم وظائف الزاوية قيامها بدور التحكيم للفصل في مشاكل الأفراد والجماعات المحيطة بها، نظرا لما يرمز إليه شيخ الزاوية من تجسيد للحقيقة والحق والعدالة الدنيوية والأخروية.
ويتدرج عمل شيخ الزاوية في هذا المجال من التوسط لتحقيق الصلح بين الأفراد إلى دور التوسط بين القبائل لحل مشاكلهم مع بعضهم البعض أو بين بعضهم مع ممثلي السلطة، بل وفي بعض الحالات يتدخل شيخ الزاوية لتحقيق الصلح بين المتنازعين على السلطة فهو بذلك يشكل عامل استقرار وأمن لأنه يطفئ نار الفتن والحروب الأهلية ويحقن الدماء ويؤلف بين القلوب المتنافرة والاتجاهات المتصارعة[20]. وقد قدم لنا الفقيه الكانوني نماذج على قيام أعلام من الصوفية في أسفي بهذا الدور الاجتماعي الهام ننقل بعضها فيما يلي:

أ) بين الأفراد : قال الكانوني عند ترجمته لأحد أعلام التصوف والصلاح من الزاوية الحدوشية بحوز أسفي وهو أحمد بن عبد الرحمان بن حدوش: ” كان مقصودا للناس في فصل الخصوم حيث يتراضى الخصوم عليه لصدقه وأمانته “[21]

ب) بين القبائل: قال الكانوني “وقد كانت بين عبدة ودكالة حروب عديدة وتوالى عليهم القحط وانقطعت السبل بهم حتى ذهبت دكالة للولي الصالح سيدي المعطي بن صالح[22] مؤلف الذخيرة ونزلوا عليه شهرا رجالا ونساء يرغبونه في القدوم إلى بلادهم فلم يزالوا به حتى جاء ودخل أزمور ودكالة وكان لدخوله رنة فرح وسرور فوعظهم وذكرهم وزجرهم عن الخوض في الفتن والحروب فأجابوا لذلك فطلب أن يصحبه الفقهاء والشرفاء والأعيان للدخول معه لعبدة فصحبوه فدخل عبدة ثم أسفي فعقد معهم الصلح بين الفريقين سنة 1153هـ على أن ترك بينهم بلادا تعرف بالمحرومة لا يحرثها أحد وأطفأ الله نيران الفتنة والشرور وترك أصحابا وأتباعا بأسفي ورجع جزاه الله خيرا”.[23]

ج) بين القبائل والمخزن: قال الكانوني عن فترة المولى سليمان العلوي ” ولما قطع وادي أم الربيع لقيه الشريف الصالح أبوالحسن سيدي علي بن أحمد الوزاني فأمره أن يأتي أسفي ليصلح عبدة مع عاملها القائد السيد محمد بن عبد الرحمان بن ناصر”[24]

أما بخصوص التكافل الاجتماعي فقد اشتهرت الزاويا بإسهامها الكبير في التكافل الاجتماعي بمختلف أنواعه ومن بعض مظاهره المساعدة على الإيواء وإطعام الطعام وفي هذا الصدد يقول أحد الباحثين موضحا دور الزاوية في هذا المجال :”تمثل عمليات الإيواء والإطعام عنصرا أساسيا في الجهاز الصوفي ونخرج من قراءة نص التشوف بانطباع واضح قوامه أن حركة الصلحاء بشكل كبير وبأعداد كثيرة، ومظاهر تلك الحركة متنوعة كانتقال القروي إلى المدينة أو انتقال الحضري من مدينة إلى مدينة فلو لم يكن الأمن فيه قائما ولا الاستقرار دائما ما كانت لتتم البنية الاستقبالية التي تهيء نظام الإيواء والإطعام المرتبط بجهاز التصوف وهو نظام تطوعي تكافلي مبني على التعامل بالمثل بكيفية توفر لكل مسافر من الصوفية إمكانية الاستفادة من بنية استقبال في أي مكان ذهب إليه[25]
لهذا نقل الكانوني عن ابن مرزوق قوله :” والظاهر أن الزوايا في المغرب هي المواضع المعدة لإيواء الواردين وإطعام المحتاج من القاصدين”.[26]

فهذا الدور إذن متأصل في الزوايا المؤسسة بالمغرب، والأمثلة على ذلك في أسفي كثيرة نقف على بعضها مما ساقه الفقيه الكانوني أثناء ترجمته لعلم من زاوية سيدي الراضي وآخر من زاوية سيدي بوطيب حيث قال عن الأول” كانت له مدرسة شهيرة للقراءات مقصودة للناس من الجهات يقوم بمؤونتهم “[27] وعن الثاني ” كان لا يلبس الكتان أصلا مطعما للطعام … من حسناته عدة أبار في الطرق لأبناء السبيل”[28]. وإذا كان المغرب قد اشتهر بكرمه الحاتمي وأصبح مضربا للمثل في ذلك، فأعتقد أنه إضافة إلى كونهم جبلوا على ذلك فقد عملت زوايا التصوف على ترسيخ هذه القيمة في نفوس المغاربة فساهمت بذلك في إذكاء التكافل الاجتماعي خاصة في فترات الأوبئة والمجاعات التي كانت تصيب المغرب.

 

للاطلاع على الجزئين السابقين

الجزء الأول 

الجزء الثاني

 

[1]  تربيتنا الروحية لسعيد حوى ص20 ط دار السلام للطباعة والنشر 1996.

[2]  البدر اللائح ص 11.

[3]  نفسه ص 81.

[4]  نفسه 49.

[5]  جواهر الكمال ج1 ص81.

[6] الجواهر الصفية ص 251

[7]  نفسه ص 54ـ 55.

[8] علائق أسفي ومنطقتها بملوك المغرب ص 79.

[9] يشير الدكتور عبد الهادي احميتو إلى أن من الزوايا التي عرفت بالقرآن الكريم ودراسة العلم الشريف في العهد العلوي بمنطقة احمر فقط زاوية الشرادي واوية الخنوفة واوية سيدي رحمون وزاوية بلحول وزاوية الحاج التهامي وقبلهم الزاوية البوسونية ينظر مداخلته “مظاهر العناية بالقرآن الكريم ومؤسساته في بلاد أحمر وزواياها” ضمن أعمال ندوة منطقة أحمر معالمها وأعلامها تنظيم وطبع أعمالها المجلس العلمي المحلي لليوسفية سنة 2012.

[10]  جواهر الكمال ج1ص52.

[11] ينظر بهذا الخصوص تاريخ خزائن الكتب بالمغرب للدكتور شوقي بنبين من ص 147إلى ص152.

[12] الجواهر الصفية ص198.

[13] نفسه ص 250.

[14]  جواهر الكمال ج 2ص20ـ 21ـ 22.

[15]  تمت الإشارة إليهم عند الكانوني كأبي العباس أحمد كراو(ت 1293هـ) رابع أربعة أرسلهم السلطان عبد الرحمان بن هشام لبلاد أروبا ينظر جواهر الكمال ج1ص14.

[16] ينظر علائق أسفي مرجع سابق ص 7ـ 8 و18و22.

[17] ينظر علائق أسفي ص 69.

[18]  الجواهر الصفية ص 237.

[19]  نفسه ص 241 وجواهر الكمال ج1ص 22.

[20]  الخطاب الصوفي محمد مفتاح ص237.أطروحة بجامعة محمد خيضر الجزائر 2015.

[21] جواهر الكمال ج1ص23.

[22]  هو الشيخ محمد المعطى بن محمد الصَّالِح(1180هـ)، أبو عبد الله الشرقاوي (أو الشرقي) العمراوي، ويقال له البجّعدي: من شيوخ زاوية (أبي الجعد) بتادلا، في المغرب، ووفاته بها. صنف (ذخيرة المحتاج في الصلاة على صاحب اللواء والتاج ) في عدة أجزاء ينظر الأعلام للزركلي.

[23] علائق أسفي ص 94.

[24] علائق اسفي ص 112.

[25]  التصوف والمجتمع د عبد اللطيف الشاذلي ص134 منشورات جامعة الحسن الثاني سلا 1989.

[26] الجواهر الصفية ص 27

[27] جواهر الكمال ج1ص 22

[28] الجواهر الصفية ص 259

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في دين وثراث
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

تكريم فعاليات ثقافية بأسفي في اليوم العالمي للرجل