انثري العطر واكسري الزجاجة..

3,201
قصة قصيرة / بقلم ماجدة بطار

يحكى أن أميرة من بلاد بعيدة في زمن العجائب و الغرائب ، كلما تألمت همت بتكسير زجاجة عطرها المفضل كإعلان تمرد على الحياة ، وان لاشيء يستحق الألفة ،  حتى رذاذ الانتماء لمحبة قابل للتجديد ،  يكفي أن نعشق بصمتنا لا بصدى الكلم الصارخ المنمق المتبجح بصدقه الواهم .

وصل الأمر بها  أن استنفذت كل الماركات على اختلاف نسماتها التي توحي بمزاج غادر للفرح ، لم تعد بحاجة لبائعي العطور، بل لمن يستطيع المزج بين رياحين الربيع وعبق الصدق ، هكذا اشترطت على مقطري كل أنواع الورود لاستلهام عطر أخاذ يلامس الإحساس و يداعب الروح بصفاء سريرة صاحبه.

بدا الأمر بالنسبة لصانعي العطور أشبه بالقبض على الجمر،  سيما وان شرط الأميرة غريب ونادر في زمن كثر فيه  أشباه الصادقين ، يكفي أن يتجملوا باللباقة وحلو الكلام ،  لكن كيف للأميرة أن تهتدي إلى  صاحب القلب البلوري الشفاف المنعكسة براءة اختراعه على محياه وعينيه .

قدر عطرها أن يكون جاهزا في غضون دقيقة واحدة لا أكثر، تساءل الجميع: أتسخر منا أميرتنا ؟ كيف لعطر أن يكون جاهزا في ظرف قياسي لا يتقبل استيعابه عقل ؟

“ذلك مرادي ومبتغاي ” أجابت الأميرة ،عطر ذو عبق نوعي ينساب من الأعماق و يداعب وجنتي الجمال بروحه العذبة السمحة .

لم يكن أمام غالبيتهم سوى الانسحاب ، لكن قلة قليلة منهم عزمت على خوض غمار التحدي بقلب من حديد ، بعضهم اختار تقطير أنواع عدة من الورود ،  بينما اكتفى البعض الآخر بالصمت أمام هول الصدمة: “لا نستطيع فعل ذلك ، طلبك مستحيل التحقيق سيدتي ..”

“من قال أنني ابتغي  المستحيل ؟ مرادي استثناء القاعدة وهذا يكفيني”

تقدم أحدهم نحوها معلنا إيجاده لضالتها ،” عطرك جاهز سيدتي، إنه في كل مكان حولك ، يكفي أن تشيحي بوجهك عن اليأس وتطلقي العنان لضحكتك الوفية للأمل ، عطرنا المفضل مزاجنا الرائق ،  موعدنا مع السعادة حين نريد ذلك حقا  ، عبقنا الأصلي  في الطبيعة بأكملها ، في زهر البرتقال و لون البنفسج على خدود الرياحين ، في الأصفر والأخضر، في لون السماء والأرض ،  بين مد الصيف وجزر الخريف ، بين شك ويقين ، بين واقع وخيال ، بين حقيقة ووهم تتأرجح عواطفنا الإنسانية ، يكفي أن نغمض أعيننا ونمضي في الحياة ، نلتقط وردة بارة بأخواتها ، غير خائنة لعهد اللقاء ، مستعدة لضم سرها بين أشواكها ،غير آبهة لصفع الريح ولا لقسوة الكر و الفر.

منتزع الوردة قاتلها ، منبهر بلونها القاتم المغري ، لا يهمه اقتفاء اثر عطرها بل يستهويه غموضها ، يعتريه فضول مخيف لاكتشاف كنه براءتها لتنتهي دموعا جفت مآقيها بين دفتي كتاب منسي عنوانه ذكرى مهجورة..

لك أن تختاري عطرك  ، وحده مزاجك يحدد طبيعة عبقه ، على اختلاف الفصول تتغير روح نسماته ، عفويتك زينتك ، ثقتك بنفسك لحنك الشارد بين نوتات عقلك وقلبك ، اضبطي إيقاعها على هوى قدرك ولا تسمحي لسارقي الأحلام باقتناص فرحتك ، بسمتك أيقونتك  ،  مقبلاتك لوجبة الحياة الدسمة ، اعتدلي في ظنك ولا تطلقي العنان لثقتك العمياء فتهلكي ، كوني متطلبة في أمانيك  ، أنت أميرة نفسك ، يكفيك فخرا أنك أنثى تجيد العزف على أوتار الصمت ،  تعرف جيدا متى تصد وكيف ترد..

لمعت عينا الأميرة إعجابا بنباهة الشاب الوسيم الذي أجاد نظم قوافي الكلم  ،  ذكاؤه تخطى حدود الوصف ، هو ذا أمامها ذاك الذي لم تكف يوما عن اقتفاء اثر ظله  الذي ظل يلاحقها ، مكتشف عطرها الاستثنائي  ، مرآة ذاتها ، عمقها الذي يتحرى صدقا ..

ستظل دوما وفية للألم الذي حرر حواسها من عبودية الوفاء لعطر سام خانق بنفس العبق ،  كل عطور الدنيا الآن ملك لها فلتتحرر منه  إذن ولتكسر الزجاجة..

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في ثقافة وفن
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

النقابة الوطنية للصحافة المغربية: قليلٌ من الإنصاف لا يضر

كتبت الإعلامية حنان رحاب تتعرض النقابة الوطنية للصحافة المغربية منذ مدة لحملة ممنهجة، توجه…