آسفي المدينة الباذخة في الفرح والقرح

3,858

بقلم عبد الله النملي

الحب ليس محصورا دائما بين كائنين بيولوجيين، بل هناك أيضا حب للأمكنة والمدائن. والكتابة عن المدن متعة آسرة، لا يعادلها إلا قصائد العشق أو أغاني الفرح. وإذا كانت هناك مدن لا تَستهوي زوارها ولا تُحرك لهم في النفس ساكنا، فإن مدنا أخرى تستحيل الحياة من دونها بلا معنى. هذه المدن هي التي تستحق أن تتوقف عندها بالتفكير والحنين والعشق. آسفي، حاضرة المحيط، كما أسماها بن خلدون، واحدة من تلك المدن التي تسكن التاريخ البشري، بل هي حكاية تتردد تفاصيلها الساحرة في زوايا الحضارة الإنسانية. آسفي، تاريخ عريق، وصفحة رائعة من الحضارات والشعوب والديانات التي تعاقبت على هذه الأرض التي تعشق التنوع. هي بلا شك، أيقونة التسامح وعنوان الانفتاح، بكل ما تحتويه من حضارة ضاربة في أعماق التاريخ البشري. فكل من يزور آسفي يَعز عليه فراقها، وكل من عرفها تعلق بها، إنها المدينة الباذخة في الفرح والقَرح، تُعطي وتجزل في العطاء، ولا تنتظر مقابلا لقاء ذلك.
آسفي مدينة ضاربة في القدم، أنشئت على وادي الشعبة، منبع الطين والخزف الذي اشتهرت به المدينة. لا يعرف بالضبط العصر الذي تأسست فيه المدينة، فهي قديمة قدم التاريخ نفسه، وقد حيكت حول تأسيسها واشتقاق اسمها روايات متضاربة. ولعل الأحفوريات التي اكتشفت بجبل ايغود شرق المدينة سنة 1962 ، والمتكونة من بقايا عظمية بشرية وحيوانية وأدوات مختلفة تفيد بأن الإنسان عمّر آسفي قبل خمسين ألف سنة. ولا غرو في ذلك، فالمدينة تضم مجموعة من المآثر التاريخية والقلاع التي تشهد على تاريخها العريق، حتى أن اسمها ورد ضمن أمهات المعاجم، وذكرها ابن بطوطة في مذكراته الشهيرة التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة. وزارها وزير غرناطة لسان الدين بن الخطيب، وأعجب بها “الدون إمانويل” ملك البرتغال، فشيّد بها كاتدرائية بهندسة فريدة، ووقّع ثلاثة من أبنائها على وثيقة الاستقلال، تقف أسوارها شاهدة على ماض مجيد، حتى وصل ساحلها القائد العربي عقبة بن نافع، ووصفت بأقدس مناطق المغرب، تُنبت أرضها الصلحاء كما تُنبت العشب، وأنشأ بها الشيخ أبي محمد صالح مؤسسة الركب الحجازي، حتى باتت مركز إشعاع علمي. ومنها أطلق سيدي محمد بن سليمان الجزولي الإشعاع لطريقته الصوفية.

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في صوت الفايسبوكيين
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

بودكاست أسفي اليوم | الخطاط عبد الحكيم بورضى والحديث عن تطور الخط العربي في عصر التكنولوجيا