المعرفة الصحفية بين الحتمية ..الواقعية والمصداقية

2,616

أسفي اليوم : ماجدة بطار

“اذا كنت لا تقرا الصحف فانك جاهل بما يقع، وإذا كنت تقرؤها ، فإن معلوماتك خاطئة” الكاتب الامريكي “مارك توين

ماجدوى قراءة الصحف..ومامدى  مصداقيتها في نقل المعلومة ؟ أتستحق عناء التصفح ؟ أتحوي بين طياتها ما يفتح شهية القارئ على أفق جديد للقراءة يحمله على إعمال فكره ليستقرئ طريقة تناولها للمواضيع ويستخدم النهج العلمي القائم على التحليل المنطقي لمجريات الأحداث ، ويتبين  بالتالي درجة وعيها و احترامها لشخص  القارئ على اختلاف متغيراته الفكرية الاجتماعية و الثقافية ؟

هل قراءة الصحف ضرورة معرفية حتمية ، أم مجرد “بريستيج ” ، لا يرقى إلى انتظارات صاحبة الجلالة _لغزارة إنتاجيتها المتسمة بالسرعة الخرافية و عدم الدقة أحيانا في تحري مصادر المعلومة _ المتمثلة في نزاهة خطها التحريري بعيدا عن البراجماتية أوالحسابات الضيقة..؟

كيف يمكن إعادة نسج خيوط رباط مقدس كان مؤسسا على الانتماء لذات الخبر و اعتباره حقيقة حتمية لا غبار عليها ،

بالتقاط الحقيقة طازجة كما هي بحلوها ومرها ، بتحمل تبعات نقلها على نفسية القارئ دون الخوض في انعكاساتها على الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي و الثقافي؟

الجهل بالمعرفة مرده إلى أحد أمرين:  تفشي الأول لاعتبارات عدة و  بالتالي انعدام القدرة على استخدام ميكانيزمات التفكير المنطقي الذي ينزح الى التحليل و الاستنتاج  بعد الملاحظة و الوصف لاستيعاب مايحدث بالضبط و محاولة بلورة ما تم التوصل إليه عبر القراءة بالتأكيد في توقع انعكاساته على المدى المتوسط أو البعيد. وهو ما تسعى الصحافة  إلى بثه في نفوس القراء كجسد حي يغذى بالنقاش و الحوار الهادف المتتبع لما استجد من أحداث راهنة متجددة متشعبة و مركبة تستدعي”جاهزية التلقي” و الاستعداد للتعمق و البحث و النقد البناء،  في محاولة لإيجاد حلول توافقية مرضية تزاوج بين الموضوعية والواقعية.

أو عدم مصداقية المعرفة كأمانة علمية  ، يفترض فيها تقريب الأحداث بأبعاد أكثر وضوحا ومن زوايا عدة ، بعمق و دقة متناهيين في النزاهة  ، بتجرد وحياد يسمحان للقارئ بالرهان على ديمومة الرجوع إلى المصدر آو الصحيفة  بغض النظر عن اسمها التجاري ، انتماءاتها ، إيديولوجياتها والجهة التي تمولها..

فمختلف العمليات و المراحل التي تمر عبرها المعلومة مغربلة منقحة من جدتها وصفاء صورتها الممررة بفعل تأثيرات تشوب طريقة تلقيها و ظروف تقديمها المشوشة على فكر القارئ بوقائعها الصادمة تارة أو المخيبة لأماله تارة أخرى  ، هي محاولة للتخفيف من وطأتها و استشراب ردات فعله غير المتوقعة و اللامحسوبة النتائج..

ثم إن استيعابه لهذا الكم الهائل و المتوافر من المعرفة باسم مصادر متعددة يخلق هوة غير متجاوزة في الغالب الأعم بين الحد الأقصى من الحقيقة و الأدنى من المعلومة ، فطبيعة القالب الذي صب فيه الخبر كمادة خام  يحتم  تبني زاوية معالجة معينة و التزام المهنية في صياغة الموضوع على اختلاف مجالات الاشتغال فيه أو عليه و كذا احترام خصوصية كل جنس صحفي على حدة و هو ما يتطلب مهنية اكبر و تراكم تجارب أكثر تتيح إمكانية  تطويع المادة الصحفية و كسب ثقة القارئ و تقديره  للمردودية و انتقاد طريقة وأسلوب التناول و هفوات الكتابة الصحفية مهما أبانت عن حرفيتها و تبصرها..

في غياب شبه تام لهذه المقومات التي هي من أساسيات الكتابة الصحفية المحترمة لأخلاقيات المهنة و لقدسية المعلومة ، يتأرجح القارئ بين مطرقة  الاطلاع على مستجدات الأحداث_ كضرورة حتمية جعلت منه  كائنا اتصاليا دون الحاجة  بالضرورة إلى كونه  تواصليا  بفعل ظهور شبكات التواصل الاجتماعي  التي فرضت  اكتساح المعلومة بتعدد مصادرها الموثوقة منها و غير الموثوقة على اختلاف مستويات مرتاديها الفكرية و الثقافية و العمرية و بأشكال خطاب تتخطى  أحيانا حدود الأعراف و الدين و اللغة  متجاوزة وعي المتلقي و مرجعياته و أفكاره ، مما حذا بالأكثرية من الصحف الكتابة بلغة عامية قريبة من الشعب  نوعا ما لتحقيق التواصل الذي من المفترض أن ينبني بلغة الضاد كما كان متعارفا عليه سابقا لتفقد هذه الأخيرة  تميزها وتغزوها مصطلحات اقرب إلى التمييع ،كل ذلك أدى إلى تغير نظرة القارئ إلى الإنتاج الصحفي المفترض فيه الاحتفاظ بأصالته و رزانة خطابه ، حتى  يقتدي الجيل الصاعد بقناعات من يمثل الشريحة المثقفة الواعية عوض ان يعرج على منعطف آخر في محاولة لاحتواء أزمة القراءة و كسب نسبة مقروئية  مرتفعة ،و بين تبني النهج العلمي القائم على تحري الحقيقة و التشكيك في صحتها حتى ثبوت العكس، ربما لما أصبح يشوبها من تشويه للحقائق أو تضخيم لها آو تأويل الخبر و تخمين تأثيراته على مستويات عدة ،مما جعل المعرفة في المجال الصحفي مجرد قالب فارغ قابل لتفريغ حقائق مهجنة مرتبطة بواقع معين يشكل المضمون الخالي من الحقيقة المتقمص لأقنعة التشويق او الإبهارأوجذب انتباه المتلقي أو كسب تعاطفه أوإعجابه أو لتسويق منتج ما.

“مارك توين ” يدرك  إذن ماهية الصحافة كآلية الموقعة في الزمان و المكان و  كترجمة  لاستثنائية الإنسان ككائن عاقل يتسم بالتفكير و التحليل  ، و عليه  بالضرورة مواكبة متغيرات كل مرحلة على حدة و صياغة استراتيجية البدائل للتغلب على مختلف المعيقات التي تعترضه باستخدام التراتبية في الأولويات و الحفاظ على التنظيم و التركيز اللذين يعدان أساس النجاح في أي مجال من المجالات و أيا كان حجم التحديات..

لكن هذه المعرفة النسبية بماهيتها وجدواها لا يمنعان من التشكيك في مصداقيتها التي هي مطلب القارئ و غايته و حمل من يمتهنها إلى تقصي الدقة و الموضوعية في البحث عن الحقيقة ، الحلقة المفقودة لتحقيق التماسك في التعاقد المعرفي بين من يدعون امتلاكهم للحقيقة العاكسة للواقع و بين المنقبين عنها بين نقاط الحذف و المزدوجتين و بين أسئلة تطوق واقعية الحدث و تحلحل عقدة المبهم بالمختصر المقتضب المشذب من روابط المنطقية و المتلاعب بنباهة القارئ و قدرته على تلمس الهفوات و المقصود تجاوزها بين حدثين أو أكثر.

مهما تعددت الوقائع و الأحداث و مهما اختلفت مصادرها و طرق عرضها على القارئ فإنها تظل رغم جدتها او واقعيتها عارية من الحقيقة الكاملة بتفاصيلها الدقيقة و قدرة حامل أمانة نقلها على تحمل تبعات عزمه و جرأته في تقديم الدلائل و البراهين على صحة ما يصدر عن قلمه و يسيل له لعاب حبره و يتقد به شغف قرائه الذين خبروا نزاهة خطابه و هوسه بإكرام ثقتهم باتخاذ المواقف و بناء القناعات..

الدراية بالمعلومة لا يمنحها صفة الحقيقة و لا يقصي إمكانية  احتوائها على جزء منها ، لكن الجهل بوقائع و مجريات الأحداث  الراهنة  يقطع الشك باليقين أن لا فرق مطلقا بين أمي و متعلم ، مادامت جذوة الاطلاع و البحث عن المعلومة و جدواهما  قد انطفأت و حل محلهما صقيع صمت وسبات غريبين  يعمقان هوة  الابتذال ويقحمان المتصفح لمصادر المعلومة في متاهة “فوضى الحواس”

 

 

 

 

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في ثقافة وفن
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

بودكاست أسفي اليوم | الخطاط عبد الحكيم بورضى والحديث عن تطور الخط العربي في عصر التكنولوجيا